بعد تفريغ الحوار وصفِّه، استشعرتُ أن أية مقدمة هنا ربما تفسده، لذا سأكتفي بالقول إنني حاورت الدكتور عبدالله مناع وكنت أثناء الإصغاء إليه كمن يقلب صفحات (المستطرف) أو (العقد الفريد). لا أعرف ماذا أُطلق على اللحظة التي تكون فيها مع شخصية تجمع ثنائيات لا حصر لها؛ هو أكثر كثافة وهو الأشف ولن أبالغ إن قلتُ إني أضفتُ من خلاله للحياة أكثر من حياة، لحظات السعادة عند الدكتور مناع هي تلك التي تحيل الجسد إلى روح، إلا أن أدوات التعبير عن الأشياء ليست هي الأشياء: وهنا نص الحوار: • هل تنكر فضل النساء عليك؟ •• أبداً، أعترف بفضلهن؛ أمي، وجدتي، وخالتي؛ لأن أبي توفي مبكراً، ولما وعيت على الحياة كنت معظم وقتي بينهن، وتعلمت أولاً على يد الفقيهة حسينة باعشن، كانت تأتي أيام الحج، فنجتمع في بيت خالتي دفعاً للخوف، وتخلصاً من السرقات، التي تكثر أيام الحج كون الرجال جميعهم في المشاعر. وأيام الخليف من الثامن إلى الثالث عشر من شهر ذي الحجة، لا يبقى في جدة سوى النساء والأطفال. حسينة علمتني الدراما، كيف يبدأ الحدث وكيف يتطور من خلال سرد الحكايات والتاريخ والأساطير. • ألم تفسدك تربية النساء؟ •• إطلاقاً، ما كنت فتى مدللاً، عشت عيشة الكفاف، على ريال إلا ربع مصروف يومي لكل البيت، وجدتي فتحت كتاباً واستعانت بي معلماً، وصرفت لي راتباً نصف ريال تقريباً، وكانت الجدة تؤمّن لي ولأخي ثياب العيد، وثياب الاحتفال بعاشوراء، أفخر أني تربيتُ على أيديهن، وأنا منحاز لهن. • إذن لست ناقماً على اليتم؟ •• لو كان اليتم رجلاً لقبّلتُ جبينه، اليتم والفقر حفّزاني للنجاح، قضيت 12 عاماً دراسياً دون رسوب، وفي الإسكندرية خمس سنوات طب، وسنة امتياز دون تعثر، رغم أن الدراسة باللغة الإنجليزية، ولم يكن لي من خيارٍ سوى النجاح. • أين تكمن نواة الانطلاق؟ •• في التعليم الأولي، إذ إن مصر كانت تعتني بالديار المقدسة، وكانت ترسل أفضل المعلمين، المميزون منهم أذكر فكري مدرس الرياضيات، وحسن كشك، أصبحا صديقين لي في زمن تالٍ. • إلامَ تعزو غزارة ثقافتك المبكرة؟ •• مع التعليم، كان الفن حفلات طرب شبه أسبوعية، وفي مناسبات الزواج، إضافة إلى السينما، بيت السرتي يعرض فيلماً كل أسبوع، والراديو إذاعة لندن. لما سافرت إلى مصر كنت أعرف معظم المثقفين والأدباء والفنانين، كنت بين السيدات وعمري 11 عاماً، نستمع أغنية الجندول، وفجأة خلع النسوة حُليّهن ووضعنها فوق المذياع تكريما لمحمد عبدالوهاب. • لماذا طب الأسنان؟ •• لم يكن خياري، تخرجنا من الثانوية، ونشرت أسماؤنا في الصحف، وأمام كل اسم تخصصه الدراسي وبلد البعثة. • كيف تجاوزت الصدمة الحضارية في مصر؟ •• لا صدمة ولا هم يحزنون، هذه البيئة أعرفها جيداً، من المذياع، والسينما، والصحف، وأنا قومي الهوى. • متى بدأت علاقتك بالصحافة؟ •• في الثانوية بدأت بخربشات، تطورت في الإسكندرية، إذ كنت أرسل قصصاً تنشرها (الرائد)، وحينما تخرجت عدت وعملت في مستشفى باب شريف الحكومي، وفي المساء أذهب لصحيفة الرائد، أرد على رسائل القراء، وأكتب مقالين أسبوعيا، ومنها انتقلت للمدينة أكتب اليوميات وأرد على مشكلات القراء. • لماذا يصر كل رئيس تحرير على أن تتولى الرد على رسائل القراء؟ •• لأني خير من يفعل ذلك، أنا اليتيم، الوحيد، الغلبان، وأنا أفضل من يعرف ما اليتم، ما الحزن، ما الدموع، ولا ينبئك مثل خبير. كنت أرد على مشكلات القراء في صحيفة المدينة، كنت أرد على القراء في الباب المفتوح لمدة عامين، وأنا في العشرينات من العمر، إلا أني أشعر أنني في الخمسين، بحكم القراءات ولقاء المثقفين، وتمكني في قراءة المسرح، ومعرفتي بالسينما والغناء، والدراما، والتشكيل، جئتُ من سبأ بنبأ، إضافة إلى الإفادة من تجربتي مع الواقع وقدرتي على التعامل معه بمرونة ودون مصادمات، ولأني أحب الحياة والناس. وكنت أعقد ندوة أسبوعية في صحيفة الرائد يحضرها رؤساء تحرير وصحفيون ومثقفون وشعراء، وقررت صحيفة المدينة أن تفرغني للعمل الصحفي فرفعوا لي بخطاب لوزارة الثقافة وجاء الرد بتعييني في صحيفة البلاد. • هل من فرق بينهما حينها؟ •• البلاد كلهم أغنياء؛ عبدالله السعد، عمر السقاف، محمد رضا زينل، عابد شيخ، الخريجي، الجفالي، والمغربي، ومحمد سرور صبان، «إيش اللي يحطني بين هؤلاء»، وجدت نفسي لوحدي بينهم، ليس معي إلا عبدالرحمن منصوري الذي أصبح بعدها نائباً لوزير الخارجية، دخلت البلاد واختاروني أكون رئيسا للتحرير، لولا أن وكيل الوزارة ساعتها ناداني وقال اسحب ترشيحك «مش عاوزينك»، ورفضت فلعبوا في الأصوات، وفاز بفارق صوت عبدالمجيد شبكشي (العسكري السابق)، وهو أب لزملائي في المدرسة؛ فوزي، وأسامة، وهو إنسان ظريف، ودمه خفيف، وأصبحت سكرتير لجنة الإشراف والتحرير، وما ساعدني في النجاح محمد فدا مدير الفلاح، وعبدالله السعد وكيل وزارة المواصلات؛ وهما وطنيان، لفتا انتباهي من اللحظة الأولى، إضافة إلى عبداللطيف جمجوم.. «وكنا نسوي الشغل اللي نبغاه لتكون جريدتنا جريدة». • كيف انقلبت على رئيس التحرير؟ « ذهب الأستاذ الشبكشي لإجراء فحوصات في ألمانيا بينما كان ابنه أسامة يدرس الطب، وضعوني رئيس تحرير بالنيابة، فعملت الانقلاب، وكان أول انقلاب أبيض في جريدة البلاد، وعملنا جريدة لها صيتها وصوتها الحقيقة، وصفحة جانب من حياتهم حالياً من الماضي الجميل، واستمررتُ ستة أشهر، حتى نصح الشبكشي صديق له وقال له «الحق حيأخذ الجريدة منك» ورجع الشبكشي. • ماذا بعد؟ •• اقترحنا نعمل مجلة تساند الجريدة في التوزيع، فكانت مجلة اقرأ؛ أول مجلة سياسية ثقافية اجتماعية في المملكة، وأفرزت ضجة كبيرة، بل حينما استدعوني لرئاسة مجلة الإعلام والاتصال كان الحنين جارفاً لتقديم (اقرأ) أخرى. • لماذا نجحت اقرأ في عهدك أو ما أسباب نجاحك في عهدها الأول؟ •• الحقيقة، جعلت منها مجلة قومية، كان العرب يعملون فيها من كل الجنسيات؛ بدءا من اليمن حتى شمال أفريقيا مرورا بمصر والشام ولبنان والأردن وفلسطين والسودان إضافة إلى السعوديين. • ألم تكن للمجلة آيديولوجيا فكرية؟ •• كنا قوميين يساريين، وكانت المجلة أشبه بالبرلمان الثقافي الحيوي وجلسات النقاش وطرح الأفكار؛ عبدالله الجابري من اليمن، وعبدالله سعيد الغامدي من الباحة، كان سكرتير التحرير، وفهد الخليوي من القصيم مشرف للقسم الثقافي، واستكتبنا كل الأصوات الجديدة الثائرة على التقليد والبليد. • هل كنت رئيس تحرير صعباً وشرساً؟ •• بالعكس ديموقراطي، لدرجة عندما تدخل صالة التحرير لا تدري أين الرئيس من المرؤوس. • ألم تمارس الرقابة الصارمة؟ •• أبداً، كل رئيس قسم مسؤول عن إجازة المقالات من عنده • ماذا تحملت من تبعات؟ •• لا حصر لها، كنا نتورط في بعض الحاجات بحسن نية ولكنها قليلة. • ما الفرق بين رئاستك ورئاسة تحرير الصحف اليوم؟ •• معظم رؤساء التحرير اليوم بلا فكر سياسي، «وما ينفعش خالص يكون رئيس تحرير بدون فكر سياسي». • كم مرة أوقفت عن الكتابة، وكيف تكون ردة فعلك؟ •• مراراً، ولكني أتفهم ظروف وإمكانات الجميع، خصوصاً أن بعض رؤساء التحرير يلعب في الوقت الضائع. • كيف خرجت إلى العيادة الخاصة؟ •• جاءني أحد المحبين (خيري الخضرا وأخوه سميح الخضرا) وبعد خمس سنوات من العمل في مستشفى باب شريف مساعداً للمدير العام (السوري الأصل) الدكتور هاني التميمي، وأعطاني الخضرا مفتاح عيادة في مركز العيادات اللبنانية في شارع الملك عبدالعزيز وقال لي «عيادتك جاهزة روح اشتغل على طول وما أبغى منك ولا مليم» وكل الذي عملته لهم أني استخرجت رخصة لسميح ليعمل مختبرات، اشتغلت ثلاثة أعوام في العيادة كبس عليّ فيها الأدباء والشعراء والمثقفون من الكبار والشباب؛ محمد دمياطي، علي العمير، علي خالد الغامدي، وقالوا لازم تتفرغ للصحافة • لماذا لم تستمر في العيادة الخاصة؟ •• لستُ رأسمالياً، أنا من الطبقة الكادحة (بروليتاريا)، ولا أرى أن من حق أي صاحب مهنة أو حرفة أخذ فلوس من الغلابى والمتعبين البؤساء ليسعد بها نفسه، أصبحتُ اشتراكياً بالواقع فيما بعد. • بماذا تحتفظ من ذكريات مستشفى باب شريف؟ ••الدكتور هاني كان إنساناً فناناً، دعانا إلى عشاء في منزله بمناسبة تعيين الأستاذ محمد حسين زيدان رئيساً لتحرير الندوة وكانت أغنية (أنت عمري) للتو ظهرت، فجاء بالمسجل وأسمعنا الأغنية على العشاء والسهرة. • على ماذا تأسف؟ •• لم أأسف على شيء، إلا على شيء واحد، كنت أعمل بإلحاح وتصور وتفوق، «جدتي وعمتي لم تشاهدا السنوات التي صار فيها عبدالله مناع عبدالله مناع»، لم أستطع أن أمنحهما من الحب والوفاء ما تستحقان، أما والدتي فأخذتها إلى لندن في رحلة خاصة وأدخلتها محلات الماركات العالمية في شارع إكسفورد، شعرت أني أسعدتها ورددت لها شيئاً من الجميل.