هذه حكاية لم يكن لها صباح أو مساء ولا بداية ولا نهاية ولا عقل ولا جنون ولا حكمة ولا جهل.. كنت في (برايتون) في رحلة تعليمية بجامعة (برايتون) أقمت في عمارة صغيرة تملكها عجوز تقيم في الشقة المقابلة لي.. كنت أتأمل البحر من غرفتي التي تطل على الخيط الأزرق والأشجار العملاقة التي تحيط بالمبنى.. فتحت النافذة كان الشارع لسبب ما عاريا حتى من الناس على غير العادة وثملا في أحسن حالته.. كنت أتأمل عراقة الشجر.. سمعت رفيف أجنحة تهز الأغصان.. كانت حمامة التفّت على قدميها خيوط طائرة ورقية كانت هي الأخرى قد اشتبكت بالأغصان.. حاولت بساعدي أن أهز الشجرة كرافعة الأشغال العامة ولم أفلح.. استعنت بعصا المكنسة لإنقاذها فضاعفت من خوف الحمامة كانت الحمامة خائفة والخوف يُذهب البصيرة.. هرعت إلى الهاتف أستنجد بمركز البيئة وماهي إلا دقائق حتى حضروا وحرروا الحمامة كان تحرير الحمامة كما لو أن أمي عادت فجأة من حجب الغيب كانت فرحتي لا تضاهى بعد أن رأيت الحمامة طليقة في الفضاء راقبتها حتى انحرفت غرباً واختفت.. لحظات وإذا بجرس الباب يرن كانت العجوز.. تبادلنا النظرة كمن فوجئت بشبح أو عفريت فقد كانت تلك المرأة تراقبني كخفاش في مغارة تُحصي عليّ حركاتي وتعرب عن انزعاجها حتى من دقات مفاتيح الحاسوب امرأة مصابة بكدر الماء المتوقف عن الجريان امرأة من نسل الشيطان قلت في نفسي يا قدري الأعمى ماذا أردت لي اليوم وهذه العجوز.. سألتني بتكشيرة كالموت عن سبب استدعاء رجال البيئة فشرحت لها أمر الحمامة واختتمت حديثي بفرحتي بتحرير الحمامة بجملة (ليس أثمن من الحرية شيء) وكأنني أغريت إبليس بارتكاب معصية جديدة صمتت العجوز لفترة كأنما تشجع أفكارها ثم ضحكت ضحكة حادة كالسعال كانت الضحكة ضحكة تشفٍّ لا يطاق.. انطلقت في الحديث دون هوادة كحصان لم يطلق من مربضه منذ سنوات وبدأت تنفس نحسها الأسود.. (وما لكم وللحرية) (أنتم العرب لا تعرفون معنى الحرية) تسلحت بالصبر الجميل وبكل الحكم المحذرة التي أعلمها.. أجبتها وكيف حكمتِ على ذلك!! قالت أنتم تأتون إلى هنا وتبالغون في ممارسة الحرية لعدم فهمكم لمعناها قالتها كمن يغرز أسنانه فيك حتى العظم وأكمَلَت تحضرون سيارات فاخرة عبارة عن ثروة تتنقل على الأسفلت تجولون بها شوارعنا بسرعة جنونية وعناد وعجرفة وفجور ومزاميرها تشق الفضاء شقاً وأكملت بسحنة فيها الخسة والنذالة كل تخلف تجلبونه معكم تعبثون بالأملاك العامة وتملأون الأرض حرباً وعنفاً وإرهاباً جعلتم العالم جثة تلفظ النفس الأخير تعيشون عالما غريبا لا يفهمه غيركم أنتم أسرى عقولكم الضعيفة وأفكاركم المريضة تعاقبون البلدان التي آوتكم تفجرون الأبرياء في المسارح والطرقات أصبحتم طاحونة بشرية ألغيتم قدسية الإنسان قلعتم المشاعر من قلوبكم.. تعذبون البشر بتشفٍّ دفتركم أسود ثقيل حتى بني جلدتكم لم يسلموا منكم تقتلونهم بعد أن تغرزوا مخالبكم المسمومة في أجسادهم وتمزقون لحومهم شر تمزيق وتجعلونهم لحوما حمراء يقطر منها الدم وترمونهم للكلاب.. تتفننون في اختراع أساليب جديدة في التعذيب تمارسون القتل والإرهاب دون ملل وحناجركم تخصصت في إطلاق الشعارات والنباح والتحريض البذيء وأعدتم لسوق النساء تجارتكم القديمة الرخيصة في بيع وشراء الجواري عدتم لممارسة النخاسة جرائم متراكمة فاعلها شيطان واحد أنتم! عضضت على شفتي السفلى بغيظ حارق واستنفرت كقوس يئز قبل الانطلاق قلت لها.. هؤلاء ليسوا منا.. نحن منسلخون منهم انسلاخ الذبيحة من جلدها.. اسمعي يا جارتي نحن العرب منذ الآف السنين أصحاب حضارة ترسبت في جيناتنا حب الخير والعدل وإغاثة الملهوف والإسلام غرس فينا الرحمة والتراحم والشفقة والتكافل والرفق بالحيوان.. الذي يأتي إلى بلادكم مريض يأتي للعلاج وطالب علم وسائح تركت الفئتين وحكمت على نفر معين.. خلعت النظارة عن عينها كاشفة عن عينين منطفيتين تحت جفنين ساقطين واستمرت في نباحها.. أنتم في النهاية قتلة تحتاجون إلى علاج قالتها بتنمر كياني قلت لها نحن فعلاً نحتاج إلى علاج ولكن ليس على شكل حبوب وسوائل نحن شعوب ظُلمت لو اخترع العلماء آلة يقاس بها حجم الظلم لو فعلوا لعلمت وعلم الجميع أننا أحق الشعوب بالرحمة والرثاء والحنان لمحو الآثار المدمرة التي خلقها الظلم الذي وقع علينا لقد أتلفتم أرواحنا وجعلتم القلب يعجز عن إنتاج (كريات) حب الحياة كل مصيبة اخترعتموها لنا وكل نكبة ابتليتمونا بها كان لها دور في إتلاف أرواحنا وقتل مشاعرنا أنتم الجناة ويجب أن تصلحوا ما أفسدتموه كان الكلام يخرج مني زخاً سريعاً يفيض من كل خلية فيّ.. تبسمت في شماتة وسعلت سعلة جافة قالت لي ليس ذنب الشجرة أن الحمامة أُسرت بين أغصانها وليس ذنب الخيط الذي لُف على قدمها.. وليس ذنب الريح أيضاً الذنب ذنب الصبي العابث الذي أطلق الطائرة ليلعب بها ولم يعرف كيف يتحكم في مصيرها وعادت على شقتها كجرذ فزع يجري نحو مخبئه وجعلتني تائهاً أفكر في الخيط والريح والصبي العابث والمصير!.