تكاد تختفي حكاية ما قبل النوم التقليدية من يوميات الأطفال ولياليهم. أحلامهم في هذا الزمن تتمحور حول مغنّين عالميين وأبطال ألعاب الكترونية، بل أحياناً يكونون هم الأبطال، يتفاعلون مع «أشخاص» على الشاشات يبدون لهم حقيقيين أكثر من شخصيات على الورق عليهم تخيّلها. الخيال تغيّر. صار ثلاثي الأبعاد. الأرجح أن الحكاية التقليدية لم تعد تلبي حاجات الأطفال، كأنهم يرونها عاجزة عن مجاراة خيالهم المعاصر، وسط ما يعتبرونه غياب «الواقع» عن مشاهدها، واقعهم هم، الحركة الدائمة والمغامرة التي تجعل سندباد يلهث وربما يوقعه التعب الذي لا ينال من «هاري بوتر» و «سيّد الخاتم» وأطفال «نارنيا» وحتى «الوحش» في فيلم «الجميلة والوحش» الذي يعيدون احتضانه اليوم إنما بنسخة سينمائية جديدة ثلاثية الأبعاد. سمّاعتان في الأذنين تثبّت ناي سليمان (8 سنوات) في أذنيها سماعتين موصولتين بهاتف أمها الخلوي، أو ال «آي بود»، قبل خلودها الى النوم. تستمع إلى الموسيقى، وتغفو، من غير قصة للأطفال تتلوها الأم على مسامعها، فالموسيقى تفي بالغرض، ويبدو أنها إلى جانب أفلام الكرتون على موقع «يوتيوب»، تحقق ما عجز الوالدان عن سرده من حكايات تشبع حاجة الصغيرة إلى الأحلام التي قد تبدأ في أول الغفوة. ويشير هذا السلوك اليومي إلى تغير نمط حياة الأطفال، وسط التطور التقني الهائل، وانفتاحهم على التقنيات المتعددة الوسائط. غالبيتهم استغنت عن القصص الشعبية، والخرافات التي كان يأنس لها أطفال حالمون بربيع دائم: «بياض الثلج والأقزام السبعة» و «سندريلا»، مُسحتا من الحكايات المتداولة بنسختيهما المعروفتين، صارتا أفلاماً حوّرت فيها الشخصيات لتناسب العصر. «بياض الثلج» في الفيلم الذي يعرض راهناً في الصالات اللبنانية، شخصية قوية لا تستسلم لتسلّط زوجة أبيها. وحكاية «سندريلا» صارت حكايات، للمراهقين والبالغين معاً، «تسوّق» حلماً ابن زمنه، والبطل ليس دائماً أميراً. كذلك الأمر بالنسبة إلى «الراعي والذئب»، و «بديعة ابنة الملك»، وغيرها من القصص الشعبية اللبنانية التي تحمل مضامين اجتماعية متوارثة وتمرّر للطفل قيماً إنسانية المفترض أنها لازمنية، لكن هذه الخلاصة تبقى خاضعة للنقاش. أما المؤكد، فهو أن المغنية العالمية ريهانا من المتحكّمين والمتحكّمات اليوم بمشهد ما قبل النوم، ويضيف المغني إيمينيم خيالاً موسيقياً «أثرى» من القصص العتيقة ودفاتر الجدّات، بحسب جمهور الأطفال المعني. في ذاكرتنا، وذاكرة آبائنا والأجداد، أن الأطفال اعتادوا الاستماع إلى قصة ما قبل النوم من الأم أو الأب أو أحد افراد العائلة. «كانت قصة مميزة تتضمن كل مرة عبرة، عن الصدق أو الشجاعة أو الخير»، تقول ميرنا أبو نادر (34 سنة)، مشيرة الى تنوع القصص التي كانت تسمعها من أحد الوالدين، «وإطالة الأحداث بما يلائم ضرورات الحالة، والموقف الذي يبلغه السرد، وأيضاً كي تملأ القصة مساحة الوقت المخصصة لما قبل النوم والتي تتغير كل ليلة، بحسب ما أكون متعبة». وتتذكر ميرنا قصة «الراعي والذئب» التي سمعتها أكثر من عشر مرات، بسياقات مختلفة، وأحداث مطولة وجديدة، تنتهي حين يأتي الذئب فعلاً للقضاء على الخراف، لكنّ أحداً من أبناء القرية لا يأتي إلى نجدة الراعي، كونه كذب عليهم مراراً واستغاث كذباً فيهرعون إليه ولا يجدون ذئباً. أُمّ متعبة وطفل لا يهتم «لم أحكِ هذه القصة لابني البالغ من العمر ستّ سنوات»، تقول ميرنا. فمن جهة، مزاجها لا يسمح بقراءة قصة لطفلها قبل نومه، ربما بسبب متاعب الحياة التي ازداد ثقلها على الأهل اليوم مقارنة بأهلهم. أما الطفل، فلا يبدو لها أنه يكترث للقصص. «هاجسه اليوم يتمثل في مشاهدة افلام الكرتون، أو اللعب على الكومبيوتر»، تقول ميرنا الأم. تغير الزمن، وتغير معه سلوك الحياة التقليدي في العائلة اللبنانية، والأرجح في بلدان عربية عدة كما في العالم. ربما أصبحت القصص التقليدية «نمطاً قديماً» بالنسبة إلى العائلة المعاصرة، والأم التي تعمل في البيت وخارجه. وقد تكون القصص المتوارثة، في حد ذاتها، عاجزة عن تلبية شغف الأطفال. وهذا ما يسعى بعض دور النشر العربية إلى تلقّفه والبناء عليه، من خلال إصدار قصص حديثة للأطفال تحاكي عالمهم الفعلي. لكن النقص، عربياً، في هذا المجال، يبقى فادحاً، مقارنة بالإنتاج الغربي، ما يفسّر استيراده لقراءته أو مشاهدته بلغته الأصلية إن اجادها الطفل وعائلته، أو استهلاكها مدبلجة أو مترجمة أو مقتبسة. وهذا ما ينطبق أيضاً على مسرح الطفل العربي. لا يرى يوسف (9 سنوات)، في القصص التي تحاول أمه أحياناً أن تحكيها له قبل النوم «حقيقة»، فالمَشاهد التي تخيلها «بعيدة جداً عما أشاهده يومياً، لا وجود لأمير، ولا لذئب، ولا لغابة». كان ينتظر تدخلاً من الفضاء الخارجي، أو انتقالاً سريعاً على طريقة أفلام الكرتون، لكن اياً من هذين الاحتمالين لم يرد في القصة... فلم يعد يكترث لها. في هذه الأيام، يستعين يوسف، كما ناي، بوسائط الكترونية تزوده بالموسيقى والصور والأفلام قبل نومه، فضلاً عن أنها توقظه في الصباحات المدرسية. وتشير استطلاعات رأي أجريت في الغرب، إلى أن الطفل يحتاج الى أحداث قصصية معاصرة، متصلة بحياته اليومية، من شأنها أن تعيد اهتمامه بالقصة وسط الخيارات الواسعة المتاحة أمامه. بهذا المعنى، باتت قصص «هاري بوتر» وأخواتها تعويضاً عن عالم مفقود. لكن تلك السلسلة لم تشبع شغف اللبنانية المقيمة في فرنسا سمر هاشم (19 سنة)، والتي كتبت حتى الآن أربعة أجزاء من سلسلة قصص خيالية Les élus et les pierres stellaires، أي «الفريق وحجارة الكواكب»، ونشرت جزءين منها بالفرنسية. في القصة، تَعْبُر الشخصية الرئيسية «شايلا»، من باب سري في غرفة نومها يومياً، الى عالم فيه من طاقة السحر ما يكفي للقضاء على الشر والأشرار، وتلتقي في عالمها الافتراضي أصدقاء يمثلون أمزجة أطفال حقيقيين وأطباعهم، وهي شخصيات الخَجول، النَّزِق، وخفيف الظل.. في طفولتها، لم تستمع سمر إلى قصص قبل النوم. شاهدت كل أفلام الكرتون وأفلام الخيال الخاصة بالأطفال، وقرأت قصصاً تكشف خبايا ما وراء هذا العالم الواقعي. لكن، كل ما قرأته وشاهدته لم يشبع مخيّلتها، فأضافت إليها أحداثاً من خيالها، ودخلت فضاء واسعاً غير مرئي مع أصدقائها، وكتبت ما تخيّلته. وفي ظل اكتظاظ الزمن الراهن بالوسائل الالكترونية، مصحوبة بضغط الحياة اليومية، تبدو عديدة أسباب عزوف الأطفال عن قصص ما قبل النوم التي تربّى عليها كثيرون من آبائهم وأمهاتهم وناموا على إيقاع أحداثها. وقد يبقى بعض قصص الجدّات حيّاً في ذاكرة اللبنانيين، لكن غالبيتها تُروى في هيئة حِكَم، في مجالس الكبار. «بديعة ابنة الملك»... أيعرفها أولاد اليوم؟ كان يا ما كان في قديم الزمان، كان يُحكى أن أميرة جميلة، وحيدة لوالديها، تُدعى بديعة، أوقعت بها النساء الغيارى من جمالها، فألبسنها سواراً ذهبياً سحرياً في معصمها، أدى إلى وفاتها. حُملت بديعة على ظهر الجمل إلى شاطئ البحر. ومنذ ذلك الوقت، دخلت المملكة في حزن عميق، وفقد والداها البصر. أما المواشي التي كانت تملكها العائلة، فدخلت في حزن أيضاً وأصيبت بالعقم. مرت الأيام، والحال على تلك الحال، إلى أن وصل أمير إلى شاطئ البحر. فتح التابوت، ووجد فتاة جميلة جداً. عرف أن السوار الذهبي المسموم أدى إلى مقتلها، فنزع السوار فعادت بديعة إلى الحياة وتزوجت به، وعادت إلى أهلها. في طريق العودة، صادفت قطيع خراف كان لوالديها. نادتها: «يا أغنام بيت بيّي... خبروني عن بيّي». فأجابوها: «وحياة بديعة بديعة بالبراري، بصندوق مقفل على ظهور الجمالي... من يوم اللي راحت بديعة لا حبلنا ولا جبنا ولا هديلنا بالِ». أكملت طريقها والتقت قطيع جمال. طرحت السؤال نفسه، وجاءتها الإجابة نفسها (شِعراً باللهجة اللبنانية المحكيّة). وصلت إلى منزل أهلها، وحين رأت والديها نادتهما، وما إن سمعا صوتها حتى عرفاها وفرحا وعاد إليهما بصرهما، وعُوقبت الحسودات بالقتل. وأكملت الأميرة حياتها مع أميرها ووالديها بهدوء وطمأنينة.