اشتهرت كريستيانه باكر في الفترة التي عملت فيها مقدمة برامجٍ في قناة إم تي في MTV و من ثم صارت أيقونة في عالم الثقافة الموسيقى الشعبية (البوب). تُلقي كريستيانه باكر في كتابها "الإسلام نهج الفؤاد" نظرةً إلى جوهر الدين وتُبيّن أن هناك إسلامًا مُتسامِحًا ومنفتحًا على العالم بالفعل، مسندةً في عملها إلى القرآن والمصادر الإسلامية الأخرى. لويس غروب يعرفنا بهذا الكتاب. غالبًا ما يجري الحديث عن الإسلام في ألمانيا في سياق سياسة الاندماج أو مكافحة الإرهاب فقط. وعلى الرغم من أنَّ الإسلام غدا من المواضيع الرئيسة في وسائل الإعلام، إلا أنَّ الحديث لا يدور عن الدين ذاته إلا نادرًا، وهذا يشير إلى نقصٍ كبيرٍ، فلو تمَّ اطلاع الرأي العام على الإسلام بوصفه دينًا، وليس الزعم بأنه إيديولوجية مناهضة للديمقراطية، عندها سيتضح للناس بالفعل أنَّ الإسلام دينٌ مثل كافة الأديان الأخرى.
ربما يُشكِّل كِتاب كريستيانه باكر التي اعتنقت الدين الإسلامي مساهمةً في هذا الإيضاح، إذ إنَّ كِتاب "الإسلام نهج الفؤاد" ليس نصًا يتغنى فيه كاتبٌ ممن اعتنقوا الدين بالإسلام دون تفكُّر، بل هو نصٌ نقديٌ دقيقُ يبحث في التقاليد والتيارات الكثيرة في الإسلام. ولا ينتهي مسار الكاتبة الروحي بالخضوع لعقائد إيمانية متشددة، إنما إلى العكس من ذلك، حيث تقول الكاتبة في هذا السياق: "من يبحث عن إجابات عن الأسئلة الجوهرية الكبيرة [...] وعن ممارسات روحية يسيرة الفهم والتطبيق، يكون الإسلام طريقًا رائعًا له. بيد أنه ليس الطريق الوحيد."
التنافس على العمل الصالح
"دروس كتاب باكر فرصةٌ كبيرةٌ لمستقبل الديمقراطية في ألمانيا" تشير كريستيانه باكر في كتابها مرتين إلى استعارة تُشبِّه فيها الأديان بمغارف يغرُفُ بها الإنسان من بئر المعرفة الإلهية. وتستشهد الكاتبة في هذا السياق بالآية رقم 48 من سورة المائدة: "... لِكُلٍّ جَعَلْنَا منكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
لا تستحضر كريستيانه باكر فقط سلميَّة دين الإسلام الذي اعتنقته ولا تدافع عنه كما يفعل ممثلو الجمعيات الإسلاميَّة هنا في ألمانيا تحت ضغط النقاش المتأجج، إنما تستند في حججها دائمًا إلى القرآن - كتاب المسلمين المقدس - وإلى مصادر إسلامية أخرى. وعلاوةً على ذلك تمنح حيزًا من الكِتاب لعددٍ وافرٍ من فقهاء الدين المسلمين المعترف بهم دوليًا وتعرض بدقةٍ وبشكلٍ مقنعٍ تفاسيرهم وتآويلهم للإسلام باعتباره دينًا متسامحًا من أديان البشرية.
ومن بين الشخصيات التي قدَّمتها هنالك عالِم الدين الإنجليزي مارتين لينغس Martin Lings، ومفتي عموم البوسنة والهرسك مصطفى تسيريتش، وعالم الدين الكويتي-الأمريكي خالد أبو فضل، كما قدَّمت ناشطاتٍ نسوياتٍ إسلامياتٍ مثل أسماء بارلاس Asma Barlas وليلى أحمد وأمينة ودود.
كما تناقش كريستيانه باكر مع عالم الدين البريطاني غاي إيتون Gai Eaton
ناقشت كريستيانه باكر مع عالم الدين البريطاني غاي إيتون Gai Eaton الذي توفي مؤخرًا تفسير كلمة الجهاد الذي توفي مؤخرًا تفسير كلمة الجهاد. والجدير بالذكر هنا إنَّ الجمهور الغربي يفهم هذا المصطلح عمومًا على أنه دعوةٌ للحرب ضدَّ الكفار. ولكن بالعودة إلى المصادر الإسلامية واستنادًا إلى ما جاء فيها يتبيّّن معنىً مختلفٌ للغاية. تكتب كريستيانه باكر بحسب غاي إيتون: "الجهاد الكبير هو (...) العمل طوال الحياة على صلاح النفس، والسعي إلى الالتزام بالواجبات الدينية، وتعزيز الخُلُق الحسن كالصدق والرحمة والشجاعة الأخلاقية، زكلها قِيَمٌ يتحلى ويتصف بها الجهاد الأكبر." لا بل وحتى سلمان رشدي، وهو أحد أبرز ضحايا العنف الإسلاموي ومن العارفين المتعمِّقين في الإسلام كان قد أوضح، أن القرآن مقارنةً بالإنجيل لا يمجِّد العنف أكثر على الإطلاق. وتستشهد الكاتبة في هذا السياق بالقرآن لتثبت إمكانية تفسير كتاب الله باعتباره رسالة سلامٍ بالفعل. حيث تورد الآية رقم 190 من سورة البقرة: "... وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، كما نرى في النص [...] بوضوح. يقوم الإرهاب على الكراهية ويتأسس على الانتقام، والقرآن يحذر من هذا الأمر تحديدًا في الآية 8 من سورة المائدة: (... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ."
إبدال السيئات بالحسنات من المواضيع التي جرى تناولها في عدة مواضع من الكتاب هو. وهنا أيضًا تعود كريستيانه باكر إلى القرآن وتستشهد بالآية 34 من سورة فصلت: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ."
الإسلام والتحرر
تناقش كريستيانه باكر دينها الإسلام بشكلٍ نقديٍ وبصفتها امرأةً أيضًا. فهي ليست مستعدةً أبدًا للتخلي عن حياتها المستقلة. وتعبِّر عن صدمتها وامتعاضها كلما قابلت شخصًا من محيطها ممن يروا ببداهة أنَّ منزلة المرأة دون منزلة الرجل، وهي ليست على استعداد لقبول هذا الفهم لتقسيم الأدوار. تلتقي كريستيانه باكر بحليمة كراوسن Halima Krausen التي ولدت في هامبورغ وتعيش وتُدَرِّس في انجلترا وتناقش معها الآيات القرآنية التي لطالما يتم الاستشهاد بها ويُزعم إنها تسمح للرجل بتأديب زوجته بالضرب.
ترى حليمة كراوسن أنَّ الأمر يرتبط هنا بتفسيرٍ خاطئٍ، فالمفردة المعنية كانت في سياق نشوء القرآن تعني "حَذَّرَ". وترى بالإضافة إلى ذلك أنَّ القرآن الكريم قد دعا النساء في السورة نفسها إلى تحذير أزواجهن بطريقة مماثلة. وبغض النظر عن هذا، تُعتبر ممارسة العنف من أسباب الطلاق في الإسلام بحسب كراوسن.
لا تقف حليمة كراوسن بمفردها في نضالها هذا، فالكثير من التوجهات الإصلاحية الهامة في الإسلام انبثقت في السنوات العشر الأخيرة من مجالات نشاط "الحركة النسوية الإسلامية"، وخصوصا في إندونيسيا وماليزيا والمغرب وبريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية.
مشهدٌ دوليٌ شاملٌ للحياة الإسلامية
"الإسلام نهج الفؤاد" ليس نصًا يتغنى فيه كاتبٌ ممن اعتنقوا الدين بالإسلام دون تفكُّر، بل هو نصٌ نقديٌ دقيقُ يبحث في التقاليد والتيارات الكثيرة في الإسلام" يعرض كتاب "الإسلام نهج الفؤاد" سيرة المؤلفة الذاتية بالإضافة إلى طرحه مَدْخَلاً إلى التأويل المعاصر للإسلام، حيث تصف كريستيانه باكر رحلتها من محطة إذاعية صغيرة في هامبورغ إلى قناة الموسيقى "إم تي في" في لندن، وتروي عن حياة المشاهير من نجوم صناعة الموسيقى، وعن الاحتفال الصيفي البرّاق العاصف في منزل ميك جاغر Mick Jagger في لندن، وعن زياراتها لباكستان وإعجابها بالتديُّن المبهج الذي يعيشه الناس البسطاء هنالك والقائم في وسط التعصب الديني.
تصف باكر كيف تناقشت مع أصدقائها في الحي الهيبي في سان فرانسيسكو حول شعر المتصوّف الإسلامي جلال الدين الرومي، وتتحدث عن جلسات لدى جماعة صوفية غريبة في لندن، وعن لقائها بسيدة أعمالٍ ناجحةٍ من المملكة العربية السعودية، وعن خصوصيات الإسلام الأوروبي في البوسنة والهرسك، وفي نهاية المطاف عن مشقات رحلتها للحج إلى مكة. كما تتكلم كريستيانه باكر عن الفشل الذريع لزواجها بالصحافي التلفزيوني المغربي رشيد جعفر وتستنتج من ذلك أنَّ الاختلافات الثقافية كانت من بين الأسباب التي حالت دون نجاح حياتهما المشتركة.
ليس هذا الكِتاب إذًا دعايةً طائشةً وليس حديثًا عن الشعور بالسعادة يرويه معتنق دينٍ جديدٍ غير مبالٍ بما عدا ذلك معتقًا أنه عثر على خلاصه في مجالٍ روحيٍ مسطحة، بل هو حوارٌ حيويٌ وصريحٌ يُعنى بتناقضات الإيمان والحياة. لكن فقط من خلال عرض كريستيانه باكر لمناهج ممارسة الإسلام المختلفة، يتزعزع الحكم المُسْبَق الرائج، بأن هذا الدين يهدف إلى تقويض النظام الغربي الليبرالي. تأثير الكتاب هنا هو أقرب ما يكون إلى التِرْياق ضد ما ينجم عن نقاش الإسلام المتواتّر في هذا البلد.
الإسلام في حالة غليان
لا ينبغي بالطبع الوقوع في خطأ التقليل من شأن خطر الإسلام المتطرِّف الذي ينزع للعنف المسلح ويستند أيضًا إلى القرآن والتقاليد الإسلاميَّة. فهو يعدُّ إلى جانب تحدي الشعبوية اليمينية التي تشمل أوساطًا من الطبقة المتوسطة أيضًا من أكبر التحديات التي تواجه الديمقراطية الليبرالية في أوروبا. كما أنَّ التيار الإسلاموي الذي يُأوِّل الدين سياسيًا ويرفض الديمقراطية الليبرالية، يتعارض مع الدستور الألماني.
بيدَّ أنَّ كتاب "الإسلام نهج الفؤاد" يعرض بلا شكٍ، أنَّ الإسلام في حراكٍ، وأن حالة غليانٍ تكمن في داخله، لأنَّ هنالك تفسيرات مختلفة تنافس بعضها بعضا. وإذا لم يفلح الغرب وألمانيا في تقبُّل النظرة التي قدمتها كريستيانه باكر بمصداقية عن التفسير المتسامح للإسلام، لن يُكتبُ النجاح لاندماج المسلمين في هذا البلد. لذا فإن دروس كتاب باكر فرصةٌ كبيرةٌ لمستقبل الديمقراطية في ألمانيا.