أخذتني قدماي اليوم إلى جولةٍ استذكارية في (الرصيفة) أحد أحياء مكة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة بفعل الإزالة لصالح أحد المشاريع التطويرية التي تشهدها مكة الآن .. وكلما حاولت أن أصغي إلى أصوات تلك البيوت المتهاوية علت أصوات البوكلينات والبلدوزرات وغصَّت روحي بغبار التاريخ الذي يصبغ سماء ذلك الحي وما يليه من الأحياء المكية العريقة المشمولة بالإزالة، هناك يتجسّد التأريخ الحقيقي لبداية نهضة وحضور الإنسان وإسهامه الحقيقي في تنشيط الحياة المكية التي كانت مقتصرة على بضع أحياء متاخمة للمسجد الحرام. هذه الأحياء ( الرصيفة – أم القرى – المنصور – حارة اليمن – الطندباوي – قوز النكاسة – جبل الشراشف – المسفلة – وغيرها ..) تعج بمئات آلاف البشر من مواطنين ومقيمين قدماء أسسوا لهذه الأحياء ثقافتها وطبيعتها الاجتماعية والديموغرافية التي لا يمكن لمن لم يساكن أهلها أن يشعر بها أو يعيَ أهميةَ الحفاظ على هويّتها الراسخة في صميم المُشتَركات الإنسانية، والتي تتجاوز الماديات إلى الروحانيات الحقّة، التي لا يمكن لكل الماديات مهما بهُظَت أن تخترق جدارها الروحاني السميك. نعم .. سنة الحياة هي التغيير والتطوير، وهذا ما حدث في كل العالم المتحضّر، ولنضرب مثلاً بأوربا الحائزة لقصب السبق في التطور المادي، ولكنّ تطورها المادي الذي لا بدَّ منه تواكب مع الحفاظ على الكثير من تأريخها الحقيقي المسبوك في أحيائها القديمة التراثية، حتى تلك الأحياء التي أسّسها المسلمون العابرون هناك ذات لحظةٍ من الزمن، ظلَّت في منأى من أن تطالها يدُ الزوال لأنها بحق تراثٌ جمعيٌ لا يختص بزمنٍ أو حكومةٍ عابرة. أذكر هذا لأقطع الطريق على من سيرد عليَّ بقوله: لا بأس بزوال كل هذه الأحياء العريقة مادام التطوير هو المرادُ والمطلوب.أذكر له هذا لأنَّ تطوير الإنسان أولى من تطوير العمران كما يعلم كل قارئٍ ومتابعٍ لنهضة وتطور الممالك والدول عبر التاريخ السحيق. المأساة الحقيقية التي تختبئ من خلف هذه المشروعات تقف عند حد الإنسان، وليس أهم من الإنسان على هذه الأرض التي خلقها الله تعالى من أجله، فكيف يمكن لنا أن نزيد من مآسي الإنسان من أجل الأرض ؟! المأساة أكبر بكثير مما أعلم لأنَّ مآسي كهذه تُجبر آلاف بل عشرات وربما مئات الآلاف من الأسر على ترك بيوتها وهجرة أحيائها إلى جهاتٍ غير معلومة، تاركةً خلفها ماضيَها العريق، وعلاقاتها الاجتماعية الوطيدة التي لا يمكن لأيِّ تعويضٍ مادي مهما ارتفع وعلا أن يعوِّضهم عنها، ولا يمكن لما بقي من العمر أن يُسهم في إعادة بناء علاقاتٍ اجتماعية أوثق عروة الآن، خاصةً في زمنٍ المادة .. والمادة فقط. لا تقف المأساة عند هذه الحدود بل تتجاوزها إلى درجاتٍ بعيدة، خاصةً إذا وقفنا عند عتبة التعويضات المادية على البيوت المنزوعة من كل هذه الأحياء لصالح المشروعات، وهذه التعويضات بشهادة بعض الخبراء العقاريين ليست مجزية إطلاقاً وفيها غبنٌ كبير لحقوق مُلاّك العقارات خاصةً وأنها تقع ضمن إطار الحرم المكي ومدينة مكة التي تم تصنيف أراضيها الأغلى عالمياً. ويواجه سكان مكة مأساة أكبر من مأساة التعويضات وهي مأساة إيجاد البدائل المناسبة للسكن، في ظل ارتفاعٍ مجنون لأسعار الأراضي البيضاء ناهيك عن البيوت التي تمَّ إنشاؤها حديثاً، إضافةً إلى ارتفاع قيمة الإيجارات للبيوت والشقق بنسبةٍ فاقت في أغلب الأماكن 300% !! هذه المآسي يقف إزاءَها صاحبُ العائلة المنزوعُ بيتُه هائماً تائهاً بين بيته الذي كان يسكنه ويستره والذي صار أثراً بعد عين، ولم يعد بالإمكان تعويضُه إزاء انخفاض قيمة التعويضات بشكل كبير، وارتفاع قيمة الأراضي والبيوت بشكلٍ أكبر، وخاصةً مع هذه الهجرة الجماعية من وإلى الأحياء المُتاحة – إلى الآن- وعندها لا حل لكل هؤلاء المشمولين بالإزالة إلاّ أن ينضموا كغيرهم في قائمة المستأجرين الجدد، لتزداد الهوةُ اتساعاً بين قلةٍ تملك كل شيء .. وأكثريةٍ لا تملك شيئا ! بحسبِ الإعلانات المرفقة في الصحف سيتم البدء في فصل الخدمات عن أغلب الأحياء المذكورة ( وقد بدأ فعلياً في بعضها ) يوم 1/ 3/ 1434ه، مع أنَّ أغلب سكان هذه الأحياء لديهم الكثير من كبار السن والمرضى إضافةً إلى أبناء يرتادون المدارس، وفصل الخدمات عنهم في هذا التوقيت تحديداً يتوافق مع بداية الأسبوع الثاني من الاختبارات النصفية، فما المقصود حقاً بهكذا إجراء ؟!