لا أنسى، ولا أظن أن كثيرين من محبي السينما العربية يستطيعون نسيان مشهد الفنان المصري الراحل: محمود المليجي، وهو مُلقى على الأرض، متشبثاً بكلتا يديه بها، وأصابعه مغروسة في الطين، ودماؤه تنزف على الأرض التي أحبها، ومجموعة من أعوان الحكومة المصرية الملقبين ب«الهجانة» في ذلك الوقت يجرونه جراً و«يسحلونه» بحبال غليظة، في مشهد من أقوى مشاهد المخرج المصري العالمي يوسف شاهين، ويعتبر هذا المشهد هو ذروة فيلمه «الأرض» المنتج عام 1970 والمقتبس من قصة الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوي، والذي أراد فيه أن يعبر عن أهمية الأرض وقيمتها في حياة الإنسان. ومع مشهد «التشبث» بالأرض لمحمود المليجي تنطلق أغنية «جنائزية» حزينة ومؤثرة تقول كلماتها: «الأرض لو عطشانة... نرويها بدمانا عهد وعلينا أمانة... تفضل بالخير مليانة يا أرض الجدود... يا سبب الوجود راح نوفي العهود... يا رمز الخلود قلوبنا تهون... وعمرك ما تنامي عطشانة الأرض لو عطشانة... نرويها بدمانا». تذكرت هذه الرائعة التي صنعها يوسف شاهين، ليحتفي بالأرض ويخلدها في واحدة من «كلاسيكيات» السينما، وأنا أشاهد ما يحدث في مكةالمكرمة الآن على يد لجان «التقدير» ولجان «التعويضات» ولجان «الإزالة» وشركات «التطوير والاستثمار» العامة والخاصة «التي تلبس ثياب العمومية» لأراضي مدينة مكةالمكرمة وعقاراتها المطلوب إزالتها لمصلحة مشاريع ومرافق عامة، ولا اعتراض في هذا، وأخرى لمصلحة شركات مساهمة خاصة وشبه خاصة. وكأن هذه اللجان وهذه الشركات لا تكترث بأهمية وقيمة هذه الأراضي للإنسان «المكي» ولم تشاهد فيلم «الأرض» ولم تتأثر بمنظر «المليجي» وهو مغروس في طين أرض أجداده مع تلك الأغنية ذات الكلمات المؤثرة، كما أن «بعض» أعضاء تلك اللجان ربما غاب عنهم تلك «النظريات» التي تؤكد أن «الرجل» أي رجل غاية مراده بعد رضا الله سبحانه وتعالى أن يمتلك «أرضاً». فهو في الأصل خلق من «طين»، ويحن دائماً للأرض والطين. ومن هنا جاءت رمزية مشهد المليجي الذي غرس أصابعه في الطين وتشبث بالأرض على رغم سحبه منها «عنوة». وإذا تركنا الرمزية والشاعرية وسينما «شاهين» وكلمات «الشرقاوي» وأداء «المليجي» ونظرية خلق الإنسان وحنينه ل«الطين» وحبه الدائم للأرض جانباً، وعدنا إلى أصل حكاية «قضية» الأراضي في مكةالمكرمة، سنجد أنه قبل عشرات السنين وضع بعض التجار والرجال النافذين، أيديهم بل وأرجلهم على الأراضي المهمة في مكةالمكرمة، وبدأ ما يُسمى ب«حُمى تخطيط الأراضي». وكانت بالطبع لسوء الخبرة وقلتها واستعجال الأرباح والجشع «تخطيطات خبط عشواء» الأمر الذي أنتج ما يُسمى ب«المخططات» التي هي في الأصل اسم على غير مُسمى، فهي في ظاهرها مخططات وفي حقيقتها «عشوائيات». ولأن الطابق لم يعد «مستوراً»، فإننا نقول، والرزق على الله، إن غالبية هذه المخططات العشوائية كانت بتسهيل ومعرفة ومباركة «البعض» من المسؤولين في ذلك الوقت في «البلديات والأمانة». (نسمع الآن عن موظفي أمانة وبلديات أصبح لديهم مئات الملايين في مكة، اللهم لا اعتراض، هي لا شك في نظرهم شطارة وفهلوة). المهم، في نهاية الأمر قامت «المخططات» بلا تخطيط حقيقي ولا واقعي ولا مستقبلي، ومن دون توافر وتكامل خدمات ومرافق مهمة ومطلوبة، ومن دون حسابات ودراسات جدوى مستقبلية، ومن دون أدنى حد لحساب التمدد المستقبلي ل«الحرم المكي الشريف»، وأهمية الوصول له بأسهل الطرق، ومن دون التفكير في زيادة أعداد الحجاج والمعتمرين في المستقبل. هكذا تشكلت مكةالمكرمة، خليط مخططات «عشوائية» وكرنفالات عمرانية لا تسر الناظرين، وخير شاهد على هذا منظر «قوز النكاسة» للقادم من بعيد، ومشهد «الهنداوية» وشارع «أم القرى»، ولن أتحدث بطبيعة الحال عن «الطنضباوي» و«أم غضب» و«الدحلة» وغيرها من «الأدغال» المكية الغريبة، فهذه قصة أخرى نحكيها عندما نتحدث عن مشكلة فوضى وجود المتخلفين من الحجاج والمعتمرين منذ سنوات في مكة من دون حل نهائي لها، والتي باتت تؤرق أهالي مكةالمكرمة، وعندما برزت الحاجة الملحة في إصلاح «الوضع»، ومع الخطة الطموحة التي وضعها أمير منطقة مكةالمكرمة خالد الفيصل لدخول مكةالمكرمة في مصاف العالم الأول، وهي مهمة «صعبة» ولكن ليست «مستحيلة». وهنا باتت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت لوضع خريطة طريق جديدة تغير معالم مكةالمكرمة عبر تفكيك الأحياء العشوائية وإعادة تخطيطها وتعميرها وتوسيع الطرق والشوارع وتكبير المنافذ والمداخل والمخارج من وإلى الحرم المكي الشريف، الذي بات يهفو إليه أكثر من بليون مسلم حول العالم، وتخيّل كيف يمكن أن يدخل ويخرج ملايين الحجاج والمعتمرين يومياً من وإلى الحرم بسياراتهم وباصاتهم ومنهم الضعيف والمريض والعاجز عبر مدخل رئيسي واحد هو شارع أم القرى الذي يتكفل مطعم «الدجاج المقلي» الشهير بخنقه، إذ يقف مئات من محبي هذه الوجبة يومياً في هذا الشارع ليتكفلوا وحدهم بإغلاقه، بغض النظر عن أعداد الحجاج والمعتمرين في ذلك اليوم. إذاً نحن أمام هدف سامٍ لا غبار عليه. شوارع ومنافذ ومداخل ضيقة لا تتناسب مع العصر ولا مع أعداد زوار «البيت الحرام»، ومخططات «عشوائية» أصبحت منفرة شكلاً وموضوعاً، لماذا إذاً نحن ننتقد عمل «اللجان» المذكورة؟ ولماذا نقول أنها لم تدرك أهمية الأرض والسكن بالنسبة إلى الإنسان؟ ولهذه القضية قصة أخرى أيضاً نحتاج أن نرويها من البداية وبالتفصيل حتى تتضح الرؤية، ونصل إلى الغاية التي ننشدها، والأهداف التي نرجو أن تتحقق لمصلحة الإنسان المكي والمواطن السعودي، بدأت قضية نزع الملكيات وإنشاء المشاريع، والمرافق الخاصة والعامة منذ زمن، وأذكر أنني عندما كنت طفلاً لا يتجاوز السادسة، شهدت مجلساً مكياً من كبار وعليّة القوم في مكةالمكرمة، وكان يوماً عاصفاً بين شد وجذب حول أحد المشاريع الكبيرة في ذلك الوقت، والتي كان يتطلب «نزعاً» لملكيات مكية مهمة. وبطبيعة الحال كانت الملكيات تحتوي على أوقاف، وكان نزعها يتطلب جدلاً فقهياً واجتماعياً، اُقنع البعض ولكن لم يقنع آخرين. ودارت الأيام وانتصر المؤيدون لهذا المشروع الذي يقف شامخاً الآن بجوار الحرم، وتفتحت الشهية، ومرت الأيام وجاءت مشاريع في أحياء عدة منها: الشامية، الفلق، المدعى، سوق الليل، جبل هندي، الراقوبة، الرصيفة، أم القرى، إبراهيم الخليل، المسيال، جبل خندمة، جرول، والمسفلة وغيرها لمصلحة مشاريع مختلفة منها: الشامية، قطار الحرمين، الطريق الدائري، الطريق الموازي، جبل عمر، أم القرى، وساحات الحرم وغيرها. ومع كل هذه المشاريع التي تهدف إلى «المصلحة العامة» و«الخاصة المغلفة بعمومية»، ولا أحد بطبيعة الحال يعترض على هذه «المصلحة»، برزت سلبيات عدة ومتشعبة أرقت ولا تزال تؤرق مضاجع أهالي مكةالمكرمة وغيرهم من الملاك السعوديين لأراضي العاصمة المقدسة: أولاً: التأخير في الصرف، وهو أمر يسبب مشكلة كبيرة للمالك الساكن الذي لا يملك منزلاً آخر، ولا يملك أموالاً كافية ليشتري منزلاً أو مسكناً آخر إذا طُلب منه الإخلاء، وشهدنا سكاناً خرجوا من منازلهم بعد قطع الكهرباء والخدمات عنها من دون تجهيز شيكات التعويضات، حتى أن الصرف على دفعات غير مجدٍ أبداً، لأن من يتسلم أول دفعة سيرغم على استئجار مقر سكن خاص يستنزف جزءاً كبيراً منها، وحين يتسلم الدفعات المتبقية لن يجدها كافية لشراء عقار بديل، خصوصاً في ظل تضخم أسعار العقارات الجامح في مكةالمكرمة حالياً. ثانياً: تقدير العقار بأقل من قيمته السوقية، فمعظم من تم تقدير أراضيهم غير راضين عن هذه التقديرات غير الواقعية وغير المستندة على أسس علمية في عالم العقار، والمعروف أن تقدير أسعار العقار أصبح علماً قائماً بذاته يدرس في الجامعات العالمية. ومن غير المعقول أن تكون التعويضات مبنية على تقديرات واجتهادات فردية، ومن غير المعقول أن يتم اللجوء في كثير من الحالات لولي الأمر ليتم تعديل التقدير وزيادته، فما هو دور لجان «التقدير» إذاً؟ ثالثاً: الضبابية وعدم وضوح الرؤية، فلا أحد يعلم في غالبية المشاريع التي نسمع عنها الآن تحديداً إذا ما كان منزله أو عقاره ضمن الحدود المنزوعة ل«المشروع» أم لا، وهنا فتح الباب للإشاعة، فيسمع المواطن في مكةالمكرمة عن «الطريق الدائري» ولكن لا يعلم أين سيمر هذا الطريق تحديداً؟!، ويسمع كذلك عن مشروع «قطار الحرمين» ولكن لا يعلم تحديداً هل جاره الذي يجب أن يغادر أم هو وأولاده؟!. وكذلك يسمع عن مشروع «الطريق الموازي» ولكن لا يعلم هل منزله سيذهب في المرحلة الأولى للمشروع بأجزائه الثلاثة المعلنة أم أن هناك مراحل أخرى ستجبره على الرحيل مستقبلاً؟!. ولا يعرف هذا المواطن المسكين هل يكمل بناء بيته أم لا؟! وهل يزوج ولده ويسكنه معه في الدور العلوي بعد إصلاحه أم يترك هذا الدور مهجوراً لأن المنزل ذاهب مع الذاهبين من قبله؟! وهكذا توقفت الحال بسبب الضبابية وعدم الوضوح. رابعاً: منح الفرصة للتلاعب من السماسرة، وهذه من أكبر السلبيات، فأثرياء الأزمات من أخطر الأشخاص على الاقتصاد الوطني، هؤلاء استغلوا قضية التعويضات وبدأوا في التلاعب على المواطن البسيط بإعلانات: «نحن نشتري منك التعويضات بأسرع وقت»، «نحن قادرون على تخليص تعويضاتك من دون عناء»، كل هذا بنسبة معتبرة من المواطن البسيط الذي يخشى من «البيروقراطية» ويخشى من تأخر أمواله، كل هذا ولم نسمع بطبيعة الحال عن أي عقاب رادع لهؤلاء الذين يدّعون وجود صِلات قوية ومقدّرة على تسهيل الصرف بنسبة مرتفعة تصل إلى 30 في المئة من قيمة العقار على حساب المواطن المغلوب على أمره. خامساً: عدم وجود مخططات نموذجية تستوعب الخارجين من الأراضي المنزوعة، إذ إنه لا توجد في مكةالمكرمة مخططات مكتملة الخدمات، والتي يمكن شراؤها بأموال التعويضات إلا عدداً قليلاً من الأراضي، الأمر الذي تسبب في ارتفاع الأسعار بشكل جنوني جداً، والمشكلة الكبيرة بل إنها الطامة أن شراء الأراضي في الأماكن البعيدة وغير المخططة أو المهيأة للسكن، سيعيد تكوين «العشوائيات» في المستقبل ونقع في المشكلة نفسها لاحقاً، ويعود الكتان كما كان. سادساً: الضبابية التي نتجت من عدم نشر خرائط واضحة المعالم للمشاريع المستقبلية، فمن يريد أن يسكن في مكةالمكرمة مخيّر بين أمرين: إما أن ينجّم أو يفتح «المندل» لمعرفة أن المنزل الذي سيشتريه أو الأرض التي يرغب في شرائها واستثمارها ستذهب مع «المشاريع» أم ستبقى مع «الناجين» بدعاء الوالدين؟ وإذا نجت الأرض لن ينجو هو من إثم «الشعوذة»، أو أن يدعو الله في الحرم المكي دعاءً خالصاً قانتاً ليسهل بقاء هذه الأرض التي ينوي شراءها أو هذا المنزل الذي ينوي بناءه أو هذه العمارة التي ينوي استثمارها، ويكتب نجاتها من «المشاريع» التي لا يعلمها إلا ثلة قليلة، من أين ستأتي وإلى أين ستذهب. سابعاً: إيقاف مشاريع استثمارية وتحجيم حركة العقار، وهناك عدد كبير من المشاريع التي كان ينوي أصحابها إنشاءها في أحياء مثل إبراهيم الخليل والرصيفة وغيرهما، توقفت هذه المشاريع منذ سنوات ولم يستطع أصحابها الاستفادة من أراضيهم أو حتى بيعها، فلا مشاريع تمت، ولا مبالغ صرفت ولا تمكّن أصحاب الأراضي من بيعها. باختصار وقفت الحال بسبب الخوف من ضبابية «المشاريع»، وكما هو معلوم: «إن رأس المال جبان». ثامناً: الكثير من الأراضي في الأحياء «العشوائية» لا تحمل صكوكاً لأراضيها، ولكن كان من المعروف أن «فلاناً» هو ساكنها ومن أحياها وبناها وهي من المفترض أنها له ولأسرته، وهنا يبرز سؤال مهم، من سيستفيد من تعويض ال«فلان» الذي ستطول إجراءات صرف ماله؟ وما هو مصير أسرته؟ تاسعاً: الارتفاعات الوهمية في أسعار العقار، إذ استغل عدد من تجار العقار الموقف غير الواضح في مكةالمكرمة من المشاريع المستقبلية، واستغلوا المواطن أبشع استغلال، بعد علمهم بحاجته لشراء أرض أو عقار بشكل عاجل بعد إخلائه منزله وتسلّمه تعويضاً قد لا يفي قيمة عقار في مكان أبعد وأقل قيمه فعلية من عقاره الأول الذي تركه. عاشراً: تقليل الرغبة، وإضعاف الإقبال على السكن والاستثمار في مكةالمكرمة، شرفها الله وحرسها، بعد بث رسالة غير مقصودة بطبيعة الحال، أن أي منزل وأي عقار وأي مصنع أو أي أرض في مكة سيتعرض للإزالة الفورية يوماً ما، مما يقوّض أو يعرقل دعائم الحركة الاستثمارية والعقارية مستقبلاً في أم القرى، لا قدر الله. ختاماً، علينا أن نتفق ونؤكد أن «المشاريع» ضرورة ملحة في السعودية عموماً وفي مكةالمكرمة خصوصاً، نظراً إلى طبيعتها وجغرافيتها ومعاناتها من«العشوائيات» وضعف تخطيطها سابقاً، مع تزايد أعداد الحجاج والمعتمرين. ولكن، يبقى أن نأخذ في الاعتبار عدداً من الملاحظات التي تجب مراعاتها، لتحقيق مصلحة الأطراف كافة، ولكي لا يتضرر أحد، فمكةالمكرمة حرسها الله وأدامها، الحسنة بها بعشر أمثالها، والذنب فيها مضاعف. ودعاء مظلومها مرعب، نسأل الله منه البراء والسلام. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد. * رئيس تحرير صحيفة «نون» الإلكترونية.