الحياة اليوم تعج بمختلف القضايا والمشكلات التي أفرزتها الحياة المدنية المعاصرة , تلك الحياة التي أصبحت السرعة الطاغية هي السمة الأساسية لها , والسعي وراء المصالح والمنافع المتعددة والملذات المتنوعة ' والملهيات المختلفة , هذا إن لم يتطاول البعض وبتسلق سور ( المحرمات ) ويتناول بيده الآثمة ما أدرك وقدر عليه و دون مراعاة لحرمة , أو حق لمواطن مسكين لاحول له ولاقوة . ولعل أكبر مساؤى الحياة اليوم , أن الغني يزداد غنى وشراهة , والفقير يردي به الفقر حتى يلتصق بالإرض ويعيش تحت وطأة الظروف القاهرة التي أجبرته رغما عن أنفه , ولايجد ما يسترد به حقه المضاع سوى آنات متواصلة متهالكة , وهمهمات من الدعاء لاتكاد تخرج من صدر جثمت عليه صخور الظلم وقيدته حبال القسوة وألجمته الرزايا . إن الحياة اليوم أفرزت لنا هاتين الطبقتين , ولن تزال الهوة تتسع والشق يزداد توسعا حتى يعجز الراقع عن رقعة : طبقة الأغنياء , وطبقة الفقراء الضعفاء , والمشكلة هنا , ليس وجود الفقر والغنى , فهذه سنة الله في خلقة وحكمه على بني البشر , حيث اقتضت حكمته _ سبحانه _ أن يقدر المعائش والأرزاق بين العباد , ويعطي من يشاء بقدر معلوم , ويمنح ما يشاء لمن يشاء , ولايسأل سبحانه عن ذلك , فله الحكمة البالغة والبصيرة النافذة , وهو سبحانه ,كما يبتلي الفقير بالفقر و فكذلك يبتلي الغني بالغنى ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) . إن الغني حينما يسعى في طلب الرزق والمال لايلام في ذلك ولايسأل , فهو بيحث عن المطلوب منه شرعا وعقلا , يبحث عن قوت يومه ونفسه وعياله , يبحث عن إرضاء غريزة التملك, ينمي في نفسه حب المال المحبب إلى النفس ,غير أن المشكلة تكمن حينما يتجاوز الإنسان الخطوط الحمراء وتكثر أمواله وتتشعب أملاكه على حساب ذلك المواطن المسكين الذي يهضم حقه ويتطاول عليه , وتخترق بدنه الضعيف رماح التعدي , وتنهش قلبه سياط الظلم , ويكتوي جسده بجمر القوة والبطش ممن يعلوه منصبا وشأنا .ثم تكون المعضلة الكبرى حين لايجد هذا المسكين من يدافع عنه , ولايجد من يأخذ بيديه إلى بر الأمان , ولايجد من ينتشله من أوحال الظلم , ولايجد من يستمع إليه , ولايجد من يهدي له بارقة أمل , ولايجد من ينظر إليه بطرف متواضع عطوف , ولايجد من ينتصر لقضاياه , ولايجد من ينافح عن حقه المهضوم . ولايجد من بيث إليه همومه , ولايجد من بنفس عنه غمومه , والله المستعان . وقد يتهمني البعض أن نظرتي تشاؤمية وسوداء تجاه واقع هولاء المساكين , أقول : الملاحظ إن هناك كثير منهم ممن لايسألون الناس إلحافا , ويجدون حرجا من التعبير عن احتياجاتهم , إما حياء منهم , أو تعففا , أو تحرجا , غير إن هناك بعضا منهم لم يستطيعوا تحمل ما هم فيه , ولم يزالوا يعيشون في قدر من الضغوط والمآسي , حتى انفجر بهم وسالت مشكلاتهم وهمومهم الكبيرة القاسية حتى أصبحت عيانا بيانا لكل الناس , فإذا كان هذا حال القليل القليل منهم !!! فما حال من تكففوا عن سؤال الناس , ولاذوا بجنبات حجراتهم المتهالكة , ولزموا بيوتهم , وأقول بيوتهم تجوزا , وإلا فغالبيتهم في صناديق الصفيح وأعشاش الخشب واللوح , التي لاتكاد تحميهم من سطوة شمس الصيف الحارق , وزمهرير الشتاء القارس , فما حال هولاء المساكين , ومن يقوم على شأنهم , ومن يسعى لتلبية احتياجاتهم ؟؟؟ إن هولاء المساكين الضعفاء , سوق رائجة لإصحاب الذمم الواسعة , يأكلون حقهم وينهشون أعراضهم , يتسلقون على أكتافهم , لايبالون بأي واد يهلكون فيه , يتوسعون في تجاراتهم وأملاكهم بما يقتطعون ظلما وعدوا من هولاء الذين لاحول لهم ولاقوة , إن الكثير أعماهم الجشع , وطغى عليهم الطمع , وغلفت حياتهم الحب المريض للاستيلاء ولو على حساب الغير , وللإسف الضحية هم من استتروا خلف الأبنية , وتواروا عن النواظر , ولم يكن لهم لسان ينافح عنهم , ويد تذود من أمامهم .. ولئن كان هولاء المساكين يلاقون من حالهم العلقم والمر , فهم يجدون ممن ينتظرون منهم النصر والمعونة الأمر!!! لقد أغرقت الصحف والمواقع والكتب والقنوات وغيرها من وسائل الإعلام بالعديد من القضايا والمهاترات الفكرية , التي أضحت شأن من لاشأن له , ووظيفة من لايجد وظيفة له , وفرصة سانحة تحقق الشهرة السريعة بصفصفة كلام ونقل بليد , خالي من الروح , عاري من المضمون الهادف . ولا أقصد هنا من ينافحون عن الحق وأهله , فهم على ثغر عظيم وعمل جليل , غير أن تسليط الضوء انحسر على هذه القضايا وبقيت هناك ناحية مظلمة لم تجد إلى الآن من يكشف عليها النور ويبدد العتمة بقلم هادف ولسان مؤثر , ونقاش صادق , وشعور بالأخوة الصادقة , ومشاركة بالوجدان , وهم يتلمس مواطن الحاجة . أنها زاوية الضعفاء والمساكين , فما أشد حاجتهم, وهم إلى نصرتهم أحوج !!! . لابد لأهل الفكر والحل والعقد , من العلماء والمفكرين والمربين والإعلاميين وغيرهم , أن يعيدوا موازنة القضايا من جديد , وان يزيحوا بعض الأمور التي قد يكفيهم غيرهم الحديث عنها , وأن يوجدوا في سلسلة القضايا لديهم مساحة واسعة تحكي واقع هولاء البؤساء , تبرز حالهم , وتجلي أمرهم , وتظهر بعضا من معاناتهم اليومية , وما يلاقونه من مرارة العيش , ولواء الحياة , وضغوط الزمن الذي لايرحم من هم في مثل شاكلتهم . ثم إن الأمر لايتوقف عند هذا الحد فقط , بل ينبغي تقديم الحلول العاجلة لهم , وبحث سبل دعم قضاياهم , والطرق الكفيلة لسد حاجتهم , وان لابنيثق عن مثل هذه المعالجة تشكيل لجان صورية رمزية ينتهي أمرها بمجرد إعلانها !!! بل الصدق في الطرح والمصداقية في العلاج واحتساب الأجر والمثوبة والصبر عند تقديم المساعدة. إن في القلب أكثر مما خطه القلم .. وما قلته بعض مما في الوجدان من الألم .... ولن نفلح في نصرة هولاء الضعفاء إلا باقتسام الهم .. والعمل بصدق وإخلاص تجاههم . إبراهيم العمري