(الفقر .... سرطان العصر) الحياة التي نعيشها اليوم تحفل بعدد من القضايا العالقة والتقلبات الشائكة والمشاكل المستمرة والقلاقل المضنية , تؤلم رأس من يعايش أحداثها ويكابد آلامها , ويتقلب في أوحالها , ويزداد عسره عسرا إذا لم يجد كف حنون وعين حكيم تتلمس مواضع الألم ومضّان الوجع ومساقط المشقة . إن الحياة المدنية اليوم غرت فئام كثيرة من الناس بزخرفها وهالاتها وإخفاء الحقائق التي من شأنها قلب الصورة رأس على عقب , وهنا تبدو لنا المهمة الواجبة على كل من لديه القدرة والدراية من أهل الحل والربط ومن لهم صوت مسموع وكلمة مطاعة أن يفتشوا عن علل المجتمع ومساوئه , التي اختفت أو أخفيت ( بفعل فاعل ) عن عين الإصلاح وميزان العدل ومقص الرقيب , وتوارت خلف الأبنية الضخمة وناطحات السحب الشاهقة , والإعلام المأجور , والألسن المنافقة , وذوي المناصب المختلفة الذين استغلوا مكانتهم لإشباع غرائزهم الشرهة على حساب من ليس لهم حول ولاقوة . ولو قربنا عدسة المجهر قليلا وسلطناها على شريحة المجتمع لوجدنا تلك المشكلة العظيمة تبدو لنا وحولها من الهالات الحزينة , والتوهجات المنكسرة , إنها مشكلة ( الفقر !!! ) التي ألقت بظلالها على العالم اليوم , وأصبح لايخلو منها أي مجتمع بين مقل ومستكثر بفعل عددا من الظروف والمسببات التي أدت بشكل أو آخر إلى زيادة أعداد الفقراء في العالم . وقد يظن البعض أن مشكلة الفقر وأعداد الفقراء لاتوجد إلا في القرى والأرياف البعيدة عن المدن , غير أن هذه الفكرة بعيدة عن الواقع تماما , أو بالأصح هي الواقع الذي تعيشه المدن الكبيرة والعواصم اليوم في شتى أصقاع العالم , ولايزال الفقر يأكل أطراف المدن وينهش أجزاءها حتى تؤكل رغما عنها . وفي نظري أن هناك أكثر من سبب أسدلت بخمائرها على أعيننا حتى عميت عن إبصار هذه المعضلة أو تجاهلها , حتى لايعد ذلك نقصا في المجتمع وصورة مشوه له في أعين الغير وظل لايعطي المقاسات لإبعاده الحقيقية , ولعل من أهم هذه الأسباب : 1/ تعقيدات الحياة اليومية , ومتطلباتها المتزايدة , والتزاماتها التي لاتنتهي , والتي أثقلت كاهل رب الأسرة , وجعلته مشتت الذهن مضطرب الفؤاد , لايكاد يفي بجميع احتياجات أسرته وعائلته فضلا عن الكماليات التي أصبحت في عرف العالم اليوم من الضروريات لاغنى عنها لأحد مهما كان , فالغني لايجد مشقة توفيرها , والفقير تحاصره الضغوط ليوفرها تحت الإلحاح الشديد من الزوجة والأبناء , فيضطر إلى التفكير في وسائل متعددة , وقد يتجاوز البعض فيستخدم وسائل غير مشروعة , ولعل الاقتراض من البنوك أحد أكثر الوسائل التي يلجأ إليها رب الأسرة ليحاول معالجة الطلبات المتزايدة , ولكنها في حقيقة الأمر وسيلة مؤقتة , حيث لابد من تسديد القرض بنسبة معينة شهريا , وإذا لم يستطع السداد تتراكم عليه الأقساط , فيضطر إلى اخذ قرض جديد ليسدد القرض الأول , وهكذا يدخل في بوابة مظلمة من الديون قد لاتنتهي إلا على عتبات السجن وقضبانه السوداء . 2/ قلة الدخل المادي لدى كثير من الأسر , إما بسبب الإعاقة أو الوظيفة المتواضعة أو عدم تناسب عدد أفراد العائلة مع الراتب الشهري أو كثرة المتطلبات والاحتياجات أو تراكم الديون أو غيرها من الأسباب , إما مجتمعة أو منفردة , تؤثر تأثيراّ سلبيا للغاية على صاحبها وبالتالي على أفراد الأسرة . ولعل زيادة الأجور ومحاربة ارتفاع الأسعار , من الأمور المهمة التي تعالج هذه المشكلة . 3/ قلة أو ندرة مؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بالفقراء وتقدم لهم حلولا واقعية عملية إنتاجية مثمرة توفر الدخل الجيد والتدريب المميز والفرص المتساوية والبحث عن مجالات متنوعة تعطي الفقير وعائلته الفرصة الكافية والدعم الجيد كي يجد عملا مناسبا وفق ما تمليه استطاعته وقدراته , وبالنظر إلى وضع المؤسسات الاجتماعية عندنا , مثل : الجمعيات _ المبرات _ المستودعات وغيرها , فهي بلا شك تسد جانبا من العلاج , ولكن أغلب مهماتها تتمركز حول توفير الغذاء والكساء والنقود بشكل بسيط جدا , وهي بالتالي حلولا روتينية قديمة لاتكاد تعالج المشكلة إلا من بعد واحد فقط !!! ولعل ميزانيتها المتواضعة تختم عليها ذلك , وهذا يقودنا إلى ضرورة إنشاء ما ذكرته في بداية النقطة , مؤسسات مدنية ذات ميزانية كبيرة وحلول عملية , ولايكون أقصى ماتستطيع تقديمه مساعدات عينية في نهاية كل شهر والموعد الشهر القادم !!!! ولعل أصدق مثال تحت هذه النقطة ( علمني الصيد ولا تعطني سمكة ) . 4/ عدم وجود إحصائيات دقيقة عن عدد الفقراء وأوضاعهم المعيشية القاسية , وهذا الكلام معناه أن هناك فقراء لانعلم عنهم أبدا !!!! فإذا كان الفقراء الذين تعلم عنهم الجهات المعنية لازالوا يعانون مرارة الفقر ولواء المعيشة , فكيف بمن خفوا عن الأنظار وتواروا خلف الأستار ؟؟؟ أن العمل على عمل تعداد معين وإحصاء دقيق لحصر الفقراء جميعا ومعرفة مستوى دخلهم المعيشي ومن ثم التخطيط لإستراتيجية وطنية لمعالجة الفقر هي أول وسيلة لمحاربة الفقر , والعلم بوجود المشكلة هي بداية العلاج , ولا يتصور علاج بدون إحصاء وتشخيص للحالة أي كانت , إما على مستوى الفرد أو الجماعة . 4/ المصيبة العظمى التي أناخت ركابها وأطالت المكوث _ رغم أنها غير مرحب بها من عامة الشعب ومرحب بها من فئة معروفة !!! _ وهي ( غلاء الأسعار ) الذي طال كل شيء في حياتنا اليومية , من ( حليب الأطفال !!!) وحتى ( المساكن والأراضي ) وإذا سلمنا أن هذه المشكلة , حدث عالمي لم يكد يسلم منه أحد , وأن الأسعار ارتفعت خلال فترة معينة في أغلب دول العالم , فما مبرر الزيادة الجائرة لدينا التي لم تنتهي ؟؟؟ وما دخل بعض السلع التي لا دخل فيها بارتفاع أجور النفط أو انخفاضه وزيادة القيمة الجمركية أو ارتفاع قيمة الشراء من بلد المنشأ , أو ارتفاع أجور الشحن أو زيادة سعر السكر عالميا !!!! بعض ضعفاء النفوس من التجار والموردين ومن خلفهم استغلوا هذا الأمر وبدؤوا في الطيش والجشع ورفع الأسعار بشكل جنوني ومبالغ فيه جدا , ولهم في ذلك وسائل خبيثة , مثل : تخزين السلع وتقليل الكمية المطروحة في السوق , وهو الحادث الآن فيما يتعلق بمواد البناء وأمثالها من المواد الضرورية , وأزمة الشعير الخانقة , والكلام يطول في هذه النقطة ويطول معه الصراخ ولكن لاحياة لمن تنادي . 5/ ولعل النقطة السابقة تقودنا إلى السبب الخامس وهو ( الغياب التام للجهات الرقابية والمعنية ) والتي خير وصف لها _ مكانك راوح _ فلا جولات تفتيشية , ولا أنظمة فعلية مطبقة صارمة لاتحابي أحد , وإجراءات من شأنها كبح جماح الارتفاعات غير المبررة التي تزيد من رقعة الفقر لدينا , ونتساءل هنا عن دور : وزارة التجارة _ هيئة حماية المستهلك ( الغارقة في سبات عميق ) _ الأمانات والبلديات , وغيرها الكثير ممن يفترض أن تكون لديهم استشعار عالي للمسؤولية وتحمل الأمانة الموكلة إليهم , وهذا في نظري من أهم الأسباب وأكثرها التي دعت التجار والموردين إلى مواصلة لعبهم واستهتارهم ونهبهم للمواطن المغلوب على أمره , التي طالت حليب الأطفال , وشعير الغنم !!!! 6/ سوء توزيع الموارد أو التمايز بين مناطق معينة , ولك أن تتجول بسيارتك في الأحياء الراقية ( التي يسكنها الكبارية !!! وغالبا ماتكون الأحياء الشمالية !!) في أغلب المناطق وما تشاهده من خدمات راقية وإمكانيات مذهلة وشوارع واسعة ونظيفة وتشجير منمق مشذب , ثم ادر مقود سيارتك واتجه صوب الحياء الباقية ( وخصوصا الجنوبية !!) لتشاهد صورة مغايرة تماما , تجعلك تشك انك في نفس البلد !!! مع أن الذي يقدم الخدمات البلدية هو جهة واحدة للمدينة كلها , إذا لماذا هذا التباين ؟؟؟؟ أترك الإجابة لكم !!! وعودة على نفس النقطة , فإن سوء التوزيع يؤثر بشكل كبير على اقتصاديات الأسر ويرهقها ماديا ونفسيا , حيث تضطر الأسرة إلى الذهاب إلى مقر تقديم الخدمة أو المساعدة , مثل : المستشفيات , ونحوها وهذا يكلف العائلة كثيرا ويضر بوضعها المادي واستقرارها . 7/ النظرة الدونية من طبقة الأغنياء للطبقة الكادحة أو الدونية في نظرهم , ومجرد إن وجود هذه النظرة , تحجم وتضيق على العوائل الفقيرة الفرص وتحرمهم من مجالات متعددة قد تسد عوزهم وتنمي أموالهم وتساعدهم على انتشال أسرهم من حضيض الفقر , لذلك نجد إن كثير من أصحاب الأموال والتجار لايبادرون إلى صنع فرص وتقديمها إلى ذوي الدخل المحدود أو الشباب الذين ينتمون إلى عائلات فقيرة , ويستعيضون عن ذلك بجلب عدد كبير من الجاليات المختلفة ويهيؤن لهم السبل ويغدقون عليهم الأموال ويطورون مهاراتهم , ولو أعطي الشاب المواطن البسيط ربع الاهتمام والتدريب والدعم لامكن أن ينافس بقوة ويدخل مجال العمل بقدرة وإتقان كبيرين . 8/ سبب مهم وكبير وعظيم نسف أحلام الشباب , وضرب بأطنابه على ساحتهم , إنها (البطالة) وعند نطق هذه الكلمة , يخيل إلى ذهنك مساحة واسعة من الفراغ القاتل , وفضاء من السأم الممرض , ومحيط من الملل الفضيع , ولك إن تتخيل حال شاب تخرج من الجامعة مثلا , وظل يبحث عن عمل يوازي حجم التعب والجهد المادي والبدني الذي بذله خلال فترة الدراسة الجامعية , ثم لايجد أي فرصة أو بجد عملا لايتجاوز راتبه 1500 أو 2000 , فبالله عليكم متى يستطيع هذا الإنسان أن يكون نفسه ويتزوج ومن ثم يكون أسرته ويبدأ في التفكير بمشروع معين يؤمن وضع أبنائه بعد رحيله ؟؟؟ وهذه البطالة تغرق في بحر الضغوط والفقر إلا لم ينتشل أصحابها ويتضافر ذوي الشأن والمقدرة من أكبر مسؤول إلى أصغر موظف لعلاج هذه الظاهرة وبحث حلول عملية سريعة تحول دون تفاقم الوضع , ومناط ذلك كله على الرغبة القوية الصادقة من المسوؤلين ومن بيده الحل والربط , وغني عن القول أن البطالة أسرع طريق إلى الفقر وكره المجتمع !! وأخيرا .... أليس واجبا علينا جميعا أن نعيد طرح هذه القضية ونجعل لها مساحة واسعة وكافية في سلم قضايانا واهتماماتنا , وان نعيي فعلا أن الفقر بدا يستشري وينتشر كالورم القاتل الذي إن لم يحاصر ويعالج قضى على الطبقة المتوسطة , وأفرز لنا طبقتين : طبقة تغص بالغنة والملذات , وأخرى تعيش تحت خط الفقر ورزحة المشقة. إن في القلب أكثر مما خطه القلم .. وما قلته بعض مما في الوجدان من الألم .... ولن نفلح في نصرة هولاء الضعفاء إلا باقتسام الهم .. والعمل بصدق وإخلاص تجاههم , ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم , ونعمل على ان لايكون العالم من حولنا , كما وصفه البعض بقوله ( العالم اليوم جزيرة الأغنياء يحيط بها بحار من الفقر والفقراء !!!!) بقلم / إبراهيم محمد العمري