تهافت الحب في أيامنا هذه. صار يطفو على الهدايا الثمينة والورود الحمراء والسيارات الفارهة مع تناقص ملحوظ في التنهدات الدافئة والحزينة. تثير هذه التطورات العاطفية في قلبي ذكريات بعيدة. سأتذكر كما يتذكر كل مراهقي رياض السبعينيات الميلادية، امرأة تبيع بيض وبيزة. كانت بيضاء ومربربة وخفيفة دم. ملأت بيوت الرياض بالبيزة وقلوب رجالها بالحسرة. إذا شاهدت رجلا وقورا يحمل على صفحة احدى يديه طبق بيض ويدِلي في الأخرى كومة بيزة فاعرف ان أرباحها دخلت في جيب راعية البيض. كان أبو مشعل من ابرز زبائنها. ما كنا نعرف هذه الحقيقة إلا بعد اختبار جرى بالصدفة وقاد إلى كارثتين في حياته. الأولى تمرد زوجته عليه وشهادتها ضده أمام رجال الهيئة والثانية جلده في الصفاة. غلطة بسيطة ارتكبناها أنا واثنان من أصدقائي في المدرسة أودت بسمعة الرجل وبحياته العائلية. تمتع جارنا أبو مشعل رحمه الله بخصائص عديدة قلما تجتمع في رجل واحد. شغف بالنساء ووجه لا يسر النساء وشخير لا ينقطع في الصيف او في الشتاء. لندرة المكيفات وقلة النفع في المراوح كان الناس ينامون في السطوح. ولأن البيوت متلاصقة والسواتر قصيرة كانت الأصوات وحتى الهمسات تنتقل من سطح إلى آخر. كان أبو مشعل نجم صيف الرياض بلا منازع. المحظوظ من يغط في النوم قبل ان يبدأ الشخير. شخيره من النوع المدوي. تسمعه على مدى ثلاث حارات أو أكثر، ويتمتع بتنوع لا يسمح لك بالتعود عليه. في اللحظة التي تنسجم فيها مع نغمة (خخخخخ) ويبدأ النوم يتسلل إلى جفنيك ينقلك بشكل مفاجئ إلى نغمة جديدة (ففففف فففف) فتستيقظ فزعا مرتاعا وانت تسمي على روحك، وقبل ان تلتحق بالنغمة الثانية وتندمج فيها يفاجئك بنغمة ثالثة (طرررررر) وهكذا حتى مطلع الفجر. في اليوم التالي يأتيك بتنويعة جديدة من التشاخير المبتكرة. عدا هذه الخاصية والتي لا حيلة له فيها كان رجلا ودودا متواضعا يجلس مع المراهقين رغم انه تجاوز الأربعين بسنين معتبرة. كان قلبه على لسانه. لا يتردد ولا يخفي قصصه وحكاياته مع النساء ولكنه لم يخبر أحداً عن هيامه ببائعة البيض حتى قاده حظه العاثر إلى كارثة حياته.. عاشت الرياض ردحاً من الزمن لا يعرف رجالها من هي راعية البيض ولا إلى أي صنف من البشر تنتمى ولا اين تسكن ولا حتى اسم ينادونها به. كل ما يعرفه الناس انها تبيع بيضاً وبيزة وتلقب راعية البيض. تمتلك جمالا متخيلا تشي به ذراعان بيضاوان مزدحمتان بالصحة ووجه يغطيه برقع صفيق لا يكشف من صفحة الوجه سوى حافة الوجنتين اللتين تهبط عليهما الاهداب السفلية. ومن ثقبين واسعين في البرقع تطل عينان انثويتان مكحلتان تستطيع ان تبني عليهما أوهامك وتدلهك وحرمانك في عالم مجدب يخلو من وجوه النساء. كانت تجلس على الأرض امام بسطتها مترامية الجسد وحركتها ثقيلة كبطة. تمثال إيحائي لأنثى تستطيع أن تخترع منه أي امرأة تريد. مشهد لا يختلف عما تشاهده في الأسواق اليوم من ذوات اللثام اللاتي يجعلن الشباب يغازلون وَهْم امرأة مختبئة وراء عناصر منتقاة من انوثتها بكل عناية. تكاثرت التخمينات والدراسات والأبحاث للوصول إلى حقيقة بائعة البيض دون جدوى. ارتبطت في خيال رجال الرياض بالبيض والبيزة والذراعين البيضاوين الممتلئتين. الشيء الغريب أن أحدا لم يدَّعِ وصلًا بها، ولم تتخلق حولها الأقاصيص ولم تضف لها الأخيلة المتعطشة شيئا لم تقدمه بنفسها، بيد انها مصنع متكامل لإنتاج الخيال السري. كان سعر البيزة نصف ريال ولكن راعية البيض لا تبيع بالفردة كغيرها من البائعات. كل عشر بيزات في ربطة وكل ربطة بخمسة ريالات. تبي ولا فارق. تقولها وتلحقها بضحكة خفيفة فتخور ركبتا الرجل الذي يساومها فيضطر أن يجلس القرفصاء لاستكمال مباحثات الشراء. البيع بالربطة فكرة مبتكرة وعادلة. سعر البيز الواحد نصف ريال لا يستحق المفاصلة الامر الذي لا يسمح للرجل البقاء في حضرة المرأة طويلا. الشراء بالربطة يعطي الزبون المحترم عذرا لإطالة المساومة على امل السرحان في العيون السود وفي الوقت نفسه يضاعف من حجم مبيعات المرأة. هل تريد عدالة اكثر من تلك ولكن أبا مشعل تعدى حدوده الغرامية فوقع في شر أطماعه، كما سنرى بعد غد. * البيز: كيس من القماش مزخرف محشو بقليل من القطن يستخدم للحماية من الحرارة عند حمل الاواني الساخنة وخاصة الدلة. المصدر : صحيفة الرياض . 1