أنعم الله على هذه الأمة بمواسم مباركات تضاعف فيها الحسنات، وتُطهر فيها القلوب من رانِ الموبقات، جُعِلت زاداً للمؤمنين، وعنواناً للتائبين، ورفعةً للمحسنين، وزيادةً يعجز المؤمن عن تحصيلها لو قضى عمره في الطاعات . وبَعدَ وداعنا وفراقنا رمضان، ها هي أيام عشر ذي الحجة تقبل علينا، أياماً مباركاتٍ يَكثر فيها من العبادات والطاعات وتُعظَّم فيها شعائر الله، فقد قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر) قالوا : ولا الجهاد!، قال (ولا الجهاد، إلا رجل خرج يُخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)، وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: (ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) . قال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازات لِمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج وغيرها، ولا يتأتّى ذلك في غيرها"، لذا يستحب إحياؤها بالصيام والذكر والحج والعمرة والصدقة والأضحية، وسائر العبادات التي تقرب إلى المولى عزوجل . فأما الصيام فإنه صبر على طاعة الله لا رياء فيه، والله يقول {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} وفي الحديث "إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" . وأما ذِكر الله فعمارة للقلوب وطمأنينة للصدور فتبتدأ هذه العشر بذكر الله وشكره بالتكبير والتهليل والتحميد في جميع الأوقات وهذا هو التكبير المطلق، وأما المقيد بأدبار الصلوات فمن بعد صلاة فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، قال عزوجل {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} قال ابن عباس والشافعي والجمهور: هي أيام العشر، وقوله صلى الله عليه وسلم : "فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير" فتقول : (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد) وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما، لذلك يقول النووي رحمه الله : "واعلم أنه يُستحبُّ الإِكثار من الأذكار في هذا العشر زيادةً على غيره، ويُستحب من ذلك في يوم عَرَفة أكثر من باقي العشر" لقوله § «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» . وأما أعظم الأعمال وأخصها فحج بيت الله والوقوف بعرفات، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان؛ لما يرى من تنزُّل الملائكة والرحمة من الله على عباده؛ وقد سأل الأنصاري رسول الله § عما للحاج من الأجر فقال : (أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عزوجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول : هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثلُ رمل عالجٍ، أو مثلُ أيام الدنيا، أو مثلُ قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخورٌ لك، وأما حلقك رأسَك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفتَ بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك) [حديث حسن] . 1 عبدالرحيم عبدالرحيم الهاشم معيد بجامعة الملك فيصل