استشاري الأورام وأمراض الدم يعيش حتى الآن أكثر من عشرين ألف من المرضى والذين أجريت لهم زراعة النخاع العظمي في المراكز الطبية العالمية؛ وهم يتمتعون ويعيشون حياة صحية جيدة وأضحى الأمل المنشود لعلاج الأمراض السرطانية في الحالات المتقدمة أو في بعض الأحيان عند المراحل الأولى بعد اكتشاف المرض. لقد شهد ربع القرن الأخير تطورًا ملحوظًا وسلسلة من النجاحات في زراعة الخلايا الأساسية والمعروفة "Stem Cell" وهي الخلايا الأبوية التى حباها الله سبحانه وتعالى قدرة عجيبة على التكاثر والتنوع ؛ من هذه الخلايا تنشأ خلايا الدم البيضاء "الخلايا الدفاعية" ؛ وخلايا الدم الحمراء الأساسية لنقل الأكسجين حتى تستمر الحياة؛ والصفائح الدموية لوقف النزيف، وكذلك الخلايا اللمفاوية والأساسية لاستقرار المناعة الجسمية ضد الدخلاء الأجانب. وبالتجارب المعملية وجد أن خلية"Stem Cell" واحدة قادرة على التكاثر لألف خلية أو ما يسمى "Progenitor". إحصائيًا ما بين 40000 إلى 50000 حالة زراعية سنويًا تتم في المراكز الطبية العالمية بمعدل نمو يصل إلى 20% سنويًا؛ والأسباب في ذلك متعددة ومتنوعة فأحد هذه الأسباب الهامة ؛ نجاح هذا النوع من الزراعة في الشفاء من بعض الأمراض السرطانية وغيرها من الأمراض الوراثية المزمنة والمستعصية للعلاج بالأدوية الأخرى ؛ وتوفر مصادر الخلايا الأساسية من المتبرع . فبعد أن كان النخاع العظمي هو المصدر الرئيس للزراعة ؛ صار استخلاص هذا النوع من الخلايا سهلاً دون التدخل الجراحي ودون استخدام التخدير العام ؛ وذلك عن طريق دم المتبرع بعد أن يتم فصل الخلايا الأبوية عن باقي الخلايا الأخرى ثم نقلها للمريض المستقبل بعد معالجتها من الشوائب والخلايا الأخرى ؛ ثم لا ننسى المصدر المهم الآخر والذي تم استخدامه في الخمس عشرة سنة الأخيرة وهو استخدام الخلية الأبوية"Stem Cell" واستخلاصها من الحبل السري بعد الولادة إذا تم التطابق النسيجي بين المتبرع والمستقبل . فقد قام الدكتور “ Gluckman” وزملاؤه بأول زراعة من هذا النوع في عام 1988 م لطفل في الخامسة من عمره أصيب بمرض نقص الدم الوراثي أو ما يعرف ب " FANCONI Anemia” ولا يزال المريض يتمتع بصحة جيده دون الحاجة لأن يتبرع له بالدم. ثم بعد هذا النجاح زاد ت شهية الأطباء في هذا التخصص لهذا النوع من الزراعة عن طريق الحبل السري “ Cord Blood” وصار لهذه الخلايا بنك خاص لحفظها حتى الاستخدام. حتى عام 1998 م تم زراعة ما يقارب 600 حالة مرضية عن طريق الحبل السري" Cord Blood Transplantation”. ومن الأسباب التي كانت وراء زيادة حالات الزراعة التطور الملحوظ في العناية بالمريض قبل وأثناء وبعد الزراعة مما أثر بشكل كبير في نجاح العملية. وبسبب هذا التعدد لمصادر الزراعة لم يعد يطلق المصطلح المعروف "زراعة النخاع العظمي" أو ما يعرف طبيًا "Bone Morrow Transplantation”، بل أصبح الاسم المتداول ( اسم زراعة الخلايا الساقية أو الأبوية ) أو ما يعرف" Hematopoietic Stem Cell Transplantation” انطلاق الفكرة: بعد الحرب العالمية الثانية ، وتحديدًا بعد ضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين بالقنبلة الهيدروجينية وما أعقب ذلك من موت عشرات الآلاف من البشر نتيجة للتأثير الإشعاعي القاتل عرف أن سبب الوفاة هو فشل النخاع العظمي نتيجة لحساسيته للتأثير الإشعاعي ومن ثم فشله في إنتاج الخلايا الحيوية الآنفة الذكر وبالتالي تعرض الإنسان المصاب للالتهابات الجرثومية الحادة بسبب نقص الخلايا الدم البيضاء ؛ وتعرضه للنزيف الدموي الحاد القاتل في بعض الأحيان بسبب نقص الصفائح الدموية أو حدوث الوفاة بسبب فقر الدم الحاد وما يصاحب ذلك من الهبوط القلبي الحاد. بعد هذا الاستنتاج تبين لكل من الدكتور جاكبسون Jacobson و الدكتور لورينز Lorenz أنه يمكن إنقاذ وحماية الفئران من تأثير الإشعاع على خلايا النخاع والحد من مضاعفاته بحماية الطحال ( المعروف أيضا بإنتاجه للخلايا الأساسية) أو عن طريق نقل نخاع نقي إلى الفأر المصاب. ومن هنا بدأت فكرة زراعة النخاع العظمي ونقلها من المتبرع إلى المستقبل كفكرة بدائية بسيطة. ووجد أنه يمكن حماية الكائن الحي من مضاعفة الإشعاع القاتل بنقل الخلايا الأبوية من المتبرع إلى المريض ؛ وصار الإشعاع قبل الزراعة أحد أهم أركان العلاج لإعداد المريض وتهيئته ليستقبل الخلايا الجديدة . تاريخيًا: أول محاولة ناجحة لزراعة النخاع العظمي تمت في عام 1968م لثلاثة أطفال مصابين بمرض نقص المناعة الوراثي؛ جمعت الخلايا الأبوية المتطابقة نسيجيًا من عائلة المرضى ونقلت إلى المرضى. منذ ذاك العام حتى عام 1994م تمت أكثر من 600 حالة زراعة لمرضى نقص المناعة الوراثي. وقبل عام 1968 م كانت هناك محاولات ولكنها باءت بالفشل لعجز الأطباء عن معالجة رفض جسم المستقبل للخلايا القادمة الجديدة بسبب القصور في فهم فسيولوجية نقل الأعضاء والخلايا الدموية من المتبرع إلى المريض. من هم المرضى الذين هم بحاجة لزراعة النخاع العظمي؟ يعتقد كثير من الناس أن زراعة النخاع العظمي هي فقط لمرضى السرطان بأنواعه؛ والحقيقة أن أكثر من 50% من الزراعة تكون للمصابين بمرض السرطان الدموي المزمن والحاد والباقي موزع على أمراض أخرى مثل: سرطان الغدد اللمفاوية وسرطان الصدر؛ بعض حالات سرطان الدماغ وكذلك أمراض أخرى مثل أمراض نقص الدم الوراثي مثل الأنيميا المنجلية و" الثلاسيميا" أو ما يعرف "Thalassemia “ وأمراض نقص المناعة الوراثي والأمراض الوراثية الأخرى بسبب نقص الإنزيمات. وصارت الزراعة لأكثر من 14 مرضًا سرطانيًا واكثر من 14 مرضًا غير سرطانيًا وراثيًا. الجدير بالذكر أن الزراعة لا توصف فقط للحالات المرضية المتأخرة ؛ بل هي الحل الوحيد لبعض الأمراض الوراثية مثل نقص المناعة الحاد ونقص المواد الإنزيمية المهمة في عمليات الإيض" Metabolism” ومرض فشل النخاع العظمي بغض النظر عن أسباب الفشل وخصوصا عند بداية التشخيص. هل يتعرض المتبرع بالنخاع أو بالدم لأي مضاعفات؟ بينت الدراسات الطبية أن المضاعفات الناجمة عن التبرع بالنخاع العظمي نادرة الحدوث بسبب آثار التخدير العام ففي كل 400 حالة تبرع يتعرض متبرع واحد للخطر. أما التبرع بالخلايا الأساسية ” Stem Cell” عن طريق الدم بعد فصلها من الخلايا الأخرى ؛ فالأعراض الجانبية تحصل بسبب حقن المتبرع بالدواء المساعد لزيادة أعداد الخلايا الأساسية غير أن هده المضاعفات بسيطة وأهمها الصداع وآلاّم المفاصل والعظام والقيء وكلها يمكن السيطرة عليه. ولاشك أن التبرع بهذه الخلايا عن طريق سحب الدم بعد فصلها ومعالجتها دون الحاجة للتخدير العام هو أكثر أمانًا وأقل تكلفة ولا يستدعي تنويم المتبرع في المستشفى . فضلاً عن قدرة هذه الخلايا على التأقلم والتكيف وسرعة الانتشار والتنوع داخل جسم المريض المستقبل حتى بات هذا المصدر للزراعة هاما وأكثر استخداما. زراعة خلايا النخاع وزراعة الأعضاء: رغم التشابه الاسمي والفكري ؛ وكونها يشتركان في فكرة نقل عضو أو خلية من متبرع سليم صحيح إلى مستقبل مريض بأمس الحاجة إلى العلاج ؛ تظل هناك فروق طبية وجراحية هائلة بين كلا النوعين من الزراعة، وللتبسيط فالفروقات كالآتي: 1- إن زراعة الأعضاء كزراعة الكلى أو زراعة الكبد، هي عملية جراحية صرفة تنفذ بأيدي جراحين متخصصين في زراعة الأعضاء؛ أمّا زراعة خلايا النخاع العظمي فإنها تؤدَّى بإشراف طبي متخصص في أمراض الدم والأورام. 2- وزراعة الأعضاء تلزم المريض بأن يستمر في العلاج المناعي للتغلب على رفض العضو المتبرع به مدى الحياة ؛ بينما تتراوح مدة علاج منع الرفض ما بعد زراعة النخاع العظمي من 6 أشهر إلى 9 أشهر ما لم تحدث مضاعفات الرفض والفشل. 3- يمكث المريض بعد زراعة العضو في الغالب مدة اقل من المريض بعد زراعة النخاع العظمي أيضًا ما لم تحدث مضاعفات الزراعة. 4- يستقبل مريض زراعة العضو عضوًا كاملاً متبرعًا به ؛ ويستقبل مريض زراعة النخاع العظمي خلايا صغيرة . تشبه عملية نقل زراعة النخاع العظمي ونقل الدم، ولا ترى إلا عن طريق المجهر، وهي خلايا ذات قدرة على الانقسام والتكاثر والتجديد. وهناك فروقات علمية دقيقة لا يسع المقام التبسط فيها. مصادر الخلايا " الأبوية" أو " الساقية" : النخاع العظمي : هو أول مصدر استخدم في الزراعة ؛ وهو المصنع الرئيس لإنتاج الخلايا الحيوية ( خلايا الدم البيضاء بأنواعها ، خلايا الدم الحمراء ، الصفائح الدموية) ويوجد داخل أنسجة العظام . يستخرج النخاع العظمي من المتبرع السليم صحيًا أو قد يستخلص من المريض نفسه بعد التمهيد لذلك" بسحق" الخلايا السرطانية المتطفلة داخل النخاع العظمى كيماويًا، ومن ثم بقاء الخلايا الأساسية والحيوية بمساعدة الدواء المعالج “ GCSF” ثم معالجتها ونقلها للمريض. الدم الرئيسي: المصدر الأكثر استخداما في زراعة المرضى الكبار؛ تستخلص الخلايا من دم المتبرع عبر جهاز حيوي يفصل هذه الخلايا عن باقي الخلايا بعد حقن المتبرع بدواء يساعد على زيادة إنتاجها. الحبل السري : من المصادر الحديثة المهمة للزراعة ويستخدم بكثرة في زراعة المرضى الصغار؛ تحفظ الخلايا بعد فصلها من الخلايا الأخرى في بنوك خاصة حتى الاستخدام. الإعداد قبل الزراعة: قبل نقل الخلايا المتبرعة إلى المريض من أي مصدر كانت ؛ يهيأ المريض طبيًا ونفسيًا واجتماعيًا ليستقبل القادم الجديد ؛ ويجيبه الطبيب المختص والمسؤول عن الزراعة في عدة جلسات طبية عن الأسئلة الهامة؛ لماذا؟ كيف؟ متى ؟ أين؟ . لماذا حددت الزراعة كعلاج لهذا المرض؟ كيف تتم الزراعة والشرح المبسط لطبيعة الزراعة وطريقة النقل؟ متى يتم تحديد الزراعة وفي أي مرحلة من المرض؟ أين تتم الزراعة ؟ ما هي المراكز الخاصة بهذا النوع من العلاج؟ وما هي المضاعفات المتوقعة التي يمكن أن يتعرض لها المريض؟ حتى يستقبل المريض خلايا المتبرع لابد من تهيئة ( السكن) اللازم (للساكن الجديد) بسحق الخلايا السرطانية والقابعة في النخاع العظمي وبطبيعة الحال فالخلايا الأخرى سوف تتعرض لآثار العلاج الكيماوي والإشعاعي المكثف والمركز على مدى عدة أيام ويتعرض فيها المريض لمضاعفات العلاج التي عادة يمكن السيطرة عليها. ثم بعد ذلك تنقل الخلايا الأساسية " Stem Cells" إلى الدم عن طريق الوريد المركزي في عملية تشبه إلى حد كبير عملية نقل الدم العادي؛ حينما تصل هذه الخلايا إلى الدم الرئيسي تتجه بقدرة عجيبة إلى مراكزها في النخاع العظمي وتستقر هناك - وتنتج في غضون أيام إلى أسابيع - تنتج خلايا الدم البيضاء والحمراء والصفائح الدموية اللازمة لحياة الإنسان. عادة يمكث المريض في المستشفى أسابيع ما لم تحدث مضاعفات الزراعة . مضاعفات الزراعة: لابد أن يدفع المريض ضريبة العلاج وضريبة الزراعة تتمثل في مضاعفات تحدث بسبب العلاج الكيماوي والإشعاعي على حد سواء ومنها على سبيل الحصر : مضاعفات بسيطة ويمكن السيطرة مثل التقيؤ والصداع والغثيان والشعور بحالة الضعف العام وآلام للعظام. والمضاعفات الأخرى والناجمة من تأثير العلاج تحدث بسبب نقص الخلايا البيضاء " الدفاعية" ومنها يتعرض المريض لالتهبات جرثومية خطيرة وبسبب نقص الصفائح الدموية قد يتعرض لنزيف دموي حاد ولذلك يزود المريض بالصفائح الدموية وبالدم حال نقصان هذه الخلايا. ولاشك أن من أهم مضاعفات الزراعة والتي لازالت محل تحد للأطباء وهي باختصار رفض خلايا "الضيف" لخلايا وأنسجة "المضيف" بسبب عدم التطابق النسيجي عند خلايا الضيف وتعرف طبيًا " GVHD” . ينتج عن ذلك التهجم على أنسجة الجلد والخلايا الغشائية للجهاز الهضمي وعضو الكبد بالتحديد وتترك آثارًا يتعرض لها المريض من الطفح الجلدي والإسهال المزمن وداء اليرقان مجتمعة أو كل على حدة وهذه الأعراض معروفة لدى الأطباء المختصين جيدًا ويصفون الأدوية لوقف هذا المد الجارف الخطر وهذا الباب لازال مفتوحًا للبحث والاكتشاف للحيلولة دون حدوثه أو التقليل من آثاره. ومنها أيضا فشل النخاع العظمي المبكر بسبب رفض خلايا "المضيف" لخلايا " الضيف" ليعود المريض كما كان قبل الزراعة لذلك يحدد للمريض الزراعة مرة أخرى من نفس المتبرع أو من متبرع آخر مطابق له نسيجيا. مستقبل الزراعة: يعكف الأطباء والعلماء والباحثون في مجال الزراعة على بحث موضوع الاستفادة من زراعة الخلايا الأساسية كفكرة في نقل جينات خاصة عبر هذه الخلايا بمساعدة فيروسات معدلة هندسيًا تحمل الجين المسوؤل والمفقود أصلاً في جسم الإنسان، وقد حدثت محاولات حثيثة في هذا المجال لتكون بداية أمل لعلاجات أخرى تساهم عمليا في شفاء الإنسان. كذلك يجري حديثًا التفكير في التوسع في استخدام " الزراعة البسيطة" دون استخدام العلاج الكيماوي والإشعاعي المكثف والمركز لبعض الأمراض غير السرطانية كما هو حاصل الآن في بعض المراكز وهي متداوله طبيًا ب " Mini-Transplant” حتى إن هذا النوع من الزراعة في بعض الأحيان يتم في عيادات خاصة دون الحاجة لتنويم المريض. خاتمة: لا ريب أن الزراعة أيًا كان مصدرها قد أضافت بفضل الله صفحة جديدة في مجال الطب وأضاءت ظلام الأمراض المستعصية التي أنهكت أجساد المرضى وكانت سببًا في الماضي القريب للوفيات. ولازال الباب مفتوحًا على مصراعيه لإضافة الجديد في عالم الزراعة وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء " (البخاري)