نقلا عن الشرق الأوسط : على مدى سنوات خلت، ظلت «الفتاوى الجدلية» المنطلقة من المواقع الإلكترونية التابعة للعلماء أو طلبتهم، وقودا لأشرس معارك الحروب الفكرية بين التيارات في المجتمع السعودي. إلا أن المثير للتساؤل والريبة، ليس فقط الفتاوى، ولكن أيضا اللاعبون المختفون من ورائها، الذين لم يكتفوا بميدان «الإنترنت» وحده، وإنما تجاوزوه إلى «ساحة الفضاء»، عبر تلغيم أسئلة يوجهونها إلى نجوم الفضائيات الإسلامية، الذين اكتووا كثيرا بنيران أسئلة جماهيرهم المفخخة. المنشغلون بمهنة استخدام الفتوى سلاحا في الصراع، يتجاوز دورهم في «استحلاب فتوى» أو الإيقاع بعالم بعينه، إلى بعث فتاوى قديمة من مرقدها، وإحيائها في مناسبات، لتكون سلاحا أمضى من غيرها في كسب جولة قضايا، مثل «الاختلاط، أو قيادة المرأة السيارة». لم تعد المسألة، بحسب مختصين، «فوضى إفتاء» في حاجة إلى ضوابط، وإنما تعدى الأمر إلى ضغوط جماهيرية محددة، تسعى إلى إحراج العالم، وعلى الهواء مباشرة في أسئلة ملغمة، باعثها فقدان الثقة في العالم، ومحاولة إيقاعه في إشكال سياسي من خلال أسئلة مبطنة، تقلب مستقبله رأسا على عقب! الأمر الذي دفع الكثيرين إلى التساؤل عمن وراء تلك «اللعبة الخطرة». * من يدير موقع الشيخ؟ * «الشرق الأوسط» حاولت تتبع خيوط «صناعة الفتاوى» عبر مواقع إسلامية، تختلف انتماءاتها، لكنها تلتقي عند كون «الفتاوى» أبرز سلعتها، التي تسعى لترويجها، عن طريق نوافذ «الفتاوى، المنتديات، الإفتاء المباشر، جوال الفتاوى، فتاوى المناسبات، بيانات العلماء»، وغيرها من النوافذ الحية إلكترونيا، إلا أن التساؤل يتجاوز مضمون تلك النوافذ إلى هوية من يقوم على تحديد المنشور، نيابة عن الشيخ، ومن يعمل على فرز تساؤلات القراء واستفتاءاتهم لتقديمها إلى الشيخ صاحب الموقع، الذي يستحيل تفرغه للتفاصيل كافة. السكرتير الخاص بالشيخ عبد العزيز الراجحي، والمفوض بالإجابة عن الاتصالات الواردة على الهاتف الجوال للشيخ، أفاد عبر حديث هاتفي إلى «الشرق الأوسط» أن مشرف الموقع، بالإضافة إلى اللجنة الاستشارية، من «يقومون بتحديد ماهية الفتاوى المنشورة والقضايا المطروحة»، منوها بأن فتاوى الصفحة الرئيسية، التي قد تكون قديمة، يعاد نشرها من جديد، مع مراعاة أوقات المناسبات والأحداث الراهنة، بحسب تقدير مدير الموقع، الذي أكد أنه أحد طلاب الشيخ غالبا. * اللاعبون بالمآرب السيئة! * الشيخ عبد الله الدوسري، مدير «إذاعة القران الكريم» السعودية، ذائعة الصيت، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، يكشف معاناته مع ظاهرة اللاعبين المختفين خلف الأسئلة، وصناعة الفتوى أحيانا كثيرة. وقال: «كثيرا ما نواجه خلال برامج الإفتاء المباشرة، محاولات البعض إيقاع المشايخ في مأزق وإحراجهم مع الدولة أو الأجهزة الرسمية فيها»، الأمر الذي كان السبب - كما ذكر - في اعتماد البرامج المسجلة عوضا عن بثها مباشرة. من جهة أخرى، أوضح الدوسري أن الانفتاح الإعلامي في المنطقة العربية والعالمية يقف حجر عثرة أمام وضع أي ضوابط للفتوى، فبحسبه «باب الفتوى انفتح على مصراعيه»، مما يستعصي على المختصين «العودة إلى إغلاقه». وفي خطوة لتقنين الفتوى بصورة رسمية من قبل مفتين مختصين، أفاد عبد الله الدوسري بإضافة إذاعته خدمة «رسائل الهاتف الجوال» لاستقبال استفتاءات المستمعين 24 ساعة، ومن ثم تقوم الإذاعة بعرضها على المفتي خلال 3 إلى 4 أيام، تصل بعدها الإجابة إلى المستفتي، موضحا أن الأسئلة كافة توزع على المشايخ الذين تتم استضافتهم في برنامج «نور على الدرب»، من بينهم الشيخ عبد الله الفوزان، والشيخ عبد الله الركبان، والشيخ عبد الله الغديان، بالإضافة إلى رقم آخر خاص ب«فتاوى على الهواء» مع مفتي عام المملكة العربية السعودية، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، لاستقبال اتصالات المستمعين يوم الاثنين من كل أسبوع. من جانبه، أكد خالد الرميح، مقدم برنامج الإفتاء الشهير «نور على الدرب»، وبرامج إفتاء التلفزيون السعودي، إدراك المشايخ ممن تتم استضافتهم في البرامج وجود مآرب خبيثة وراء استفتاءات بعض المشاهدين والمستمعين، الأمر الذي يجعل العالم شديد الخشية من الانجرار خلف الإجابة السريعة، لافتا إلى أن خبرة العلماء في هذا المجال جعلت لديهم القدرة على عدم الانزلاق إلى مبتغى البعض، من خلال الإجابة الهادئة والمقنعة والسلسة، البعيدة عن الضوضاء والإثارة. أما أحد مشايخ الفتوى المشهورين، الشيخ صالح السدلان، فدعا عامة المستفتين، عبر حديثه إلى «الشرق الأوسط»، إلى ضرورة الابتعاد عن الأسئلة المبطنة بغرض إيقاع الشيخ في مزالق مع الدولة أو الجماهير العامة، أو بغرض تحقيق الإثارة في المجتمعات، كما نبه إلى عدم عرض السؤال إلا على شخص أهل للإجابة، متسلح بالعلم الكافي، قادر على استنباط إجابة صحيحة من النص الشرعي. وطالب السدلان، وهو أستاذ الدراسات العليا في كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، السائلين بالابتعاد في استفساراتهم عن «ما يتعارض مع التعليمات الصادرة عن الدولة، سواء أكانت من قبل مكتب المفتي العام، أو أجهزة الدولة الرسمية التي تراعى فيها حماية المصالح ودرء المفاسد». وبشأن سياسة الشيخ صالح السدلان في مواجهة بعض الأسئلة التي تتعمد إحراجه عبر الفضائيات والإذاعات الرسمية، قال إن ردوده تبعا لتوفيق الله، تعالى، «فلكل حالة موقف مختلف»، مع التزامه الحذر في حال كان السؤال «مبطنا»، أو كان ممن لا تجوز الإجابة عنه في حال تعلق على سبيل المثال بإحدى القضايا المنظورة في المحاكم الشرعية، بالإضافة إلى ذلك أن توجد الصلاحية في الإجابة عن السؤال المقدم عند جهة بعينها. مستشهدا على ذلك بما يتلقى من أسئلة ظهرت بحقها تعليمات وتوجيهات رسمية، حيث ينبغي للسائل في هذه الحالة العودة إلى الجهة المختصة للإجابة عن السؤال. ونوه السدلان بأنه في حال التباس القضية لدى الشيخ فيتوجب عليه أن يمسك عن الإجابة، مضيفا أنه «من حرم عبارة (الله أعلم) أصيبت مقاتله»، مؤكدا عدم جواز شذوذ المفتي في إجابته عن أسئلة المستفتين عما هو شائع في الدولة ذاتها، ومخالفة ما جرى عليه العرف في المنطقة. وأضاف أن ضوابط الإفتاء ضرورة أن تكون الفتوى شفوية، والسؤال أيضا شفويا، موكلا الفتاوى المكتوبة والأسئلة الموثقة إلى الجهات الرسمية المعنية بإصدار الفتوى، سواء أكانت من قبل هيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة للإفتاء، حيث من مهامهم - كما ذكر الشيخ السدلان - كتابة الأسئلة بصورة تحريرية، والإجابة عنها بالمثل موثقة بالختم الرسمي. ونادى الشيخ صالح السدلان بضرورة عدم التعجل في الإفتاء بصورة منفردة، حيث إن هناك كثيرا من القضايا في حاجة إلى آراء المختصين والخبراء في قضايا متعددة، مشددا في السياق ذاته على أن الفتوى الرسمية هي ما يلزم اعتمادها، أما الفتاوى الأخرى لا تتجاوز كونها فتاوى «شخصية»، لا يمكن أن تُلزم بسببها جهات رسمية، حيث إن مرجعيتها محددة. وبشأن غريب الفتاوى التي وصلت إلى سؤال أحدهم عن «حكم استعمال الملح في البيارات، غرف الصرف الصحي، لفتح المسامات حتى لا تفيض البيارة»، أو مدى جواز «الحمام المغربي»، استنكر المقدم خالد الرميح ما يرد على البرامج من استفتاءات في بيئة يغلب عليها طابع التدين والمحافظة، إلى جانب كثرة المساجد وصلوات الجماعة ودروس التوعية في الجوامع، مؤكدا أنه يبقى على الشيخ التعامل مع مثل هذه الأسئلة بالإجابة عنها من دون إهمالها، لعدم تنفير السائلين. من جانبه، وصف فهد السعوي، مقدم برنامج «حجر الزاوية»، و«الحياة كلمة» مع الشيخ سلمان العودة على قناة «إم بي سي»، الفتاوى الفضائية بأنها امتداد طبيعي لثقافة الإعلام الموجه التسويقي، وبالتالي فلا يستغرب تداعيها بكثرة.. حيث إن الأمر في النهاية عرض وطلب، «حيث وسائط الإعلام الفضائي في العقد الأخير لم تركن إلى مسار ترفيهي أو توجيهي معين، قدر ما بحثت عن مكامن العملية الاتصالية جميعها من المرسل للمستقبل للقراءة الراجعة بما تأتى». ويرى السعوي أنه وفي مجتمعات يبرز فيها الخطاب الديني، وتسود فيها الرؤى المحافظة، فإن مدا نحو تكثيف البرامج الإفتائية يعد أمرا طبيعيا، بحسب ما ذكر إذا «ما عدنا إلى حكاية العرض والطلب التسويقي البحت». أما بخصوص التجربة الشخصية في برنامجي «الحياة كلمة»، و«حجر الزاوية» فأوضح المقدم السعوي أن ابتعاد البرنامجين عن دائرة الإفتاء التقليدية، أبعدهما عن تصنيفهما كبرامج إفتاء بقدر ما هما برنامجان يطرحان تأصيلا يقارب الشرعي بالمتداول الواقعي اليومي لتكريس نظرة شمولية حياتية تستمد تأصيلها من «الديني»، وتعايش بانفتاح محاور التقنين التنظيمي ل«المدني». وأكد السعوي سعيهم دوما إلى التزام السياسة السابقة، من دون التنصل من أي سؤال أو استفسار في دائرة الفتوى المباشرة منوها بأنه «نتولى الإجابة هنا عن طريق الدكتور سلمان العودة بما ينحى بالسؤال من طرحه المباشر إلى دائرة أوسع تأصيلا ورؤية، بحيث ننتهي إلى إجابة تصلح للسائل، ولمتطلبات أخرى لغيره في السياق ذاته». وأشار إلى أنه من خلال هذه السياسة، تمكنوا من تجنب الكثير من سلبيات الإيحاءات المباشرة لبعض الأسئلة الشرعية، التي تتحول من استفتاء إلى محاكمة، أو تصنيف أو تبطين ربما بحسن نية لإجابة تستهدف في حد ذاتها. * الفتاوى المعلبة وصناعها * وبشأن المواقع الإلكترونية، التي باتت تتوالد وتزيد يوما بعد آخر، مخصصة جهدا كبيرا ومساحة لخدمة الإفتاء، مع بقاء المشرفين والقائمين على تحديث الموقع وفتاواه في «الظل»، أوضح المقدم فهد السعوي أن الموقع الإلكتروني المصاحب لبرنامج «الحياة كلمة» أو «حجر الزاوية» ينساق في اتجاه البرنامج التلفزيوني الشمولي نفسه، وبالتالي «فلا موقع خاص بالفتوى، أو نافذة داخلية أو بنر له صلة بالإفتاء» وفقا لتأكيده. وأوضح السعوي أن تركيز الموقع على خدمة البرنامج بواسطة آليتين رئيستين، الأولى إتاحة مساحات واسعة كمنتدى تفاعلي لمشاركات في الحلقة ذاتها المعلن عنها مسبقا، وبالتالي الإفادة من هذه المشاركات واستعراضها في الحلقة، والثانية أرشيف تصنيفي ضخم، صورة وصوتا، لحلقات البرنامج وإسهاماته جميعها، إضافة إلى متابعات لنثار الرصد الإعلامي حول البرنامج. أما فيما يتعلق بالناحية الإجرائية، التي يعتمدها موقع فضيلة الدكتور سلمان العودة، «الإسلام اليوم، في الإفتاء أو التصنيف للفتاوى القديمة على الموقع، فأكد أنه «ليس لدي خلفية عن الآلية»، على الرغم من تشديده على اتباع القائمين عليه نهجا واضحا، «وليست العملية قيد التراتيب الزمنية البحتة». من جهته، لم يعارض الشيخ صالح السدلان ظاهرة المواقع الإلكترونية الخاصة بالعلماء والمشايخ، التي أبرز خدماتها الإجابة عن أسئلة الجمهور بصورة سريعة عبر بنرات خاصة للإفتاء، في ظل الالتزام بضوابط الإفتاء التي أوردها سابقا، منوها بأنه كثيرا ما يسمع عن أخطاء في الفتوى، في الوقت الذي يغيب عن السائل تصور واضح وعلم كاف بما يسأل عنه.