نقلا عن صحيفة الأخبار المصرية : أن تصدر بعض الفتاوى والآراء الدينية المعتدلة عن إصلاحيين سعوديين، فهو أمر معتاد. لكن أن تصدر جملة من الآراء تبيح الاختلاط والمصافحة عن مسؤول ديني سعودي، فهو حدث بذاته لا يمكن وضعه إلا في سياق الصراع الخفيّ بين التيارات المتطرفة من جهة والمعتدلة من جهة أخرى، التي يبدو أن الملك السعودي عبد الله يقف وراءها، وهو ما ظهر بوضوح من خلال إحباطه تنفيذ قرار إقالة رئيس «هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في مدينة مكة، الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي، بعدما أباح الاختلاط في سياق مدافعته عن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «كاوست». والجامعة بحدّ ذاتها يُنظَر إليها الكثيرون على أنها المثال الأبرز على التوجه الذي يحاول الملك السعودي إرساءه من خلال اتخاذ التعليم مرتكزاً لسياسته، وعلى التيار المحافظ الذي يرفض مثل هذه المحاولات. فقد ترافق إعلان افتتاحها باعتبارها أول جامعة في المملكة تسمح بالاختلاط الكلي بين الرجال والنساء مع جدل كبير تقاسم مسرحه منظّرو التشدد والإصلاح، سواء كانوا من رجال الفكر أو السياسة أو الدين. جدال كان موقف الملك السعودي منه واضحاً، عبر إقدامه على إعفاء الشيخ سعد بن ناصر الشثري من عمله في هيئة كبار العلماء على خلفية تصريحات له ناشد فيها الملك منع الاختلاط في الجامعة. ولأن التيار الديني في السعودية متجذر منذ أيام تأسيس المملكة، انطلاقاً من التحالف القائم بين المؤسسة الدينية الوهّابية، والمؤسسة السياسية المتمثلة في الأسرة السعودية الحاكمة، كان لا بد من بروز آراء دينية مؤيدة لخطوات الملك لكي تكسب الشرعية الدينية. آراء كانت «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، أول منطلقاتها. فأصدر رئيس الهيئة في منطقة مكة جملة من المواقف «الصادمة»، لمجتمع اعتاد رجال الدين تلقين أعضائه تفسيرهم الخاص له. ورأى الغامدي، في حديث صحافي طويل في جزأين لصحيفة «عكاظ» السعودية، أن «القائلين بتحريم الاختلاط استشهدوا بأحاديث ضعيفة لا يجوز الاحتجاج بها». وأكد أنه «ليس مع الممانعين دليل، إلا كان ضعيف الإسناد، أو صحيحاً دلالته عليهم لا لهم». كذلك تحدث عن مشروعية مصافحة الرجل للمرأة. حديث أثار حفيظة عدد من علماء السعودية وأعضاء مجلس الشورى الذين هاجموه، قبل أن يتطور الأمر إلى حدّ صدور أمر شفهي بإقالته وتعيين مدير فرع محافظة الطائف، عبد الرحمن الجهني خلفاً له، لتعود الأمور وتنقلب بسرعة، فيتحول المدير الجديد إلى مجرد مساعد له، وفقاً لما نقلته صحيفة «الرياض» أول من أمس عن المتحدث الرسمي باسم الهيئة عبد المحسن القفاري. وعلى الرغم من وضع القفاري الإقالة في إطار «الشائعة التي لا ترتقي لأي درجة من الحقيقة»، إلا أن الصورة التي نشرتها صحيفة «المدينة»، أول من أمس، للغامدي والجهني وهما يجلسان في المكتب نفسه طوال اليوم في انتظار التعليمات الرسمية المكتوبة، كانت أكثر تعبيراً عن التخبط الذي عاشته الهيئة، ومن خلفها من اتخذ القرار المتسرع قبل أن يُجبَر على التراجع عنه، وتحديداً الرئيس العام، الشيخ عبد العزيز بن حمين الحمين. وبعيداً عمّا جرى داخل أروقة الهيئة، فإن النقاش الذي احتدم في المنتديات وامتدّ إلى باقي دول الخليج، وتحديداً الكويت، لا يمكن فصله عن الصدمة التي أحدثتها تصريحات الغامدي في بلد يعرف أنه يتبع أحد أكثر مناهج التعليم الديني تشدداً. فكيف يمكن تصريحات تملأها بضع صفحات أن تمحو أعواماً من التلقين الديني المتشدد الذي اعتاد المجتمع السعودي سماعه، إن في المدارس أو قاعات الجامعات أو على شاشات التلفزة؟ وجرأة الغامدي في طرح هذه القضايا، التي تُعَدّ لدى فئة كبيرة من المحرمات، لا يمكن فصلها عن التوجه الرسمي لملك السعودية، على عكس بعض أعضاء الأسرة الحاكمة المحافظة. وتأتي في الوقت الذي بدأت فيه السعودية فعلياً ممارسة هذه المفاهيم علناً في جامعة بأكملها، بعدما كان الأمر محصوراً في عدد من الكليات التطبيقية، كالطب. ومن هنا يرى البعض أن الغامدي إنما يمثّل في حديثه الغطاء الديني الذي يحتاج إليه الملك في وجه انتقادات بعض رجال الدين المتشددين، مع ما يمثله ذلك من مقدمة لنقاش ديني داخل المملكة، تؤكد الردود الأولية على تصريحات الغامدي أنه سيكون محتدماً. كذلك تكتسي تصريحات الغامدي أهميتها، نظراً لكونه يشغل منصباً في هيئة تعرف بأنها مكلفة مراقبة تطبيق الشريعة الإسلامية، مع ما يعنيه ذلك من محاولة غير مباشرة لإعادة هيكلة الأدوار الممنوحة للهيئة بدءاً من الفرع في مكة، الذي يعرف بأنه من أكثر الفروع انفتاحاً على المجتمع. لذلك، من غير المتوقع أن يذهب منتقدو الغامدي بعيداً في انتقاداتهم. وبالتالي فإن المطالبين بإقالة الغامدي أو محاكمته، عليهم من باب أولى المطالبة بتنحي الملك عبد الله، وهو أمر لا يجرؤ أي من رجال الدين، مهما بلغت حدة تشددهم، على فعله في المدى القصير، وخصوصاً أن إقالة الشثري لا تزال ماثلة أمامهم. يرى البعض أن الخطوات الإصلاحية للملك السعودي عبد الله لا تزال ناقصة ومجتزأة. لذلك، تبرز ضرورة أن تسعى السلطة السياسة السعودية إلى توسيع مروحة الانفتاح لتشمل دعاة التيار الإصلاحي بشقَّيه الليبرالي والإسلامي. ذلك أن هذا التيار يبقى، رغم حملة الملاحقات والاعتقالات التي تطاله بين الحين والآخر، الأقدر على التجاوب مع التحولات التي يسعى بعض أركان المملكة إلى تعميمها وسط سعي البعض الآخر إلى إجهاضها.