من خلال رصد وسائل الإعلام الخليجية، وكذلك تصريحات بعض المسؤولين في دول الخليج حول المفاوضات التي انتهت إلى توقيع الاتفاق النووي مع إيران، وتوجهات إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه قضايا المنطقة؛ يتأكد لنا أننا لا نقرأ أو نناقش سوى ما نريد وما يؤكد قناعاتنا المسبقة، ونتجاهل مقصود ما لا نريد أن نسمعه ولا نرغب في معرفته رغم أهميته وعمق دلالاته، سواء بالنسبة للاتفاق النووي أو السياسة الأمريكية تجاه المنطقة بشكل عام. وتظهر هذه الانتقائية المضرة تحديدًا في تعاطينا مع خطاب الرئيس أوباما الذي حاول فيه تقديم شرح مفصل لمبررات الاتفاق النووي والتوجهات "الجديدة" في السياسة الخارجية لإدارته. فقد تحدث الرئيس الأمريكي مع الصحفي توماس فريدمان في مقابلتين: الأولى في الخامس عشر من أبريل والثانية في الرابع عشر من يوليو، ونشرت وسائل الإعلام في الخليج الكثير من الآراء الناقدة حول ما تضمنته المقابلتين؛ إلا أنني لم أسمع حديثًا أو أقرأ مقالًا حول جزئية في غاية الأهمية تكررت في المقابلتين وتشير إلى تحول مهم في السياسة الأمريكية تجاه دول الخليج، وهو ما يؤكد الانتقائية التي تضر ولا تنفع وتعد من خداع النفس؛ كونها تتجاهل قناعات عند الرئيس الأمريكي تفسر الكثير مما لا نستطيع أو لا نريد فهمه في سياسته تجاه الخليج. هذه الجزئية تتعلق بما ذكره أوباما وبشكل صريح وغير مسبوق عن الأوضاع السياسية الداخلية في دول الخليج. وقبل التعليق على رؤية أوباما لهذه الأوضاع سأنقل هنا ما قاله لأهمية إطلاع القراء في الخليج على موقف رئيس القوة العظمى الحليفة لهم تجاه الأوضاع في دولهم. في مقابلته الأولى والتي سبقت قمة كامب ديفيد التي جمعته مع أمراء دول الخليج قال أوباما: "نحن ملتزمون بالدفاع عن دول الخليج وضمان عدم تهديدهم من الخارج، ولكن ما لا أستطيعه هو الالتزام تجاه قضاياهم الداخلية دون أن يقوموا بتغييرات تستجيب لمواطنيهم... فإذا كان الأمر يتعلق بالعدوان الخارجي فسنكون بجانبهم وسنعمل على بناء قدراتهم الذاتية لمواجهة أي تهديد خارجي، ولكن أكبر خطر تواجهه دول الخليج قد لا يكون غزوًا إيرانيًا، بل من حالة الاستياء داخل مجتمعاتهم. نعم الخليج يواجه تهديدات خارجية حقيقية، ولكن هناك تهديدات داخلية تتمثل في شعوب تشعر بالغربة في أوطانها وعدم وجود قنوات مشروعة للتعبير عن مطالبهم، وشباب عاطل، وأيديولوجية تدميرية عدمية... لذلك؛ فبالإضافة إلى البحث في تطوير قدراتهم العسكرية لمواجهة التهديدات الخارجية، علينا أن نبحث معهم كيف نطور الأنظمة السياسية بشكل يجعل الشباب في الخليج يجد بديلًا أفضل من داعش". في مقابلته الثانية التي أجراها معه توماس فريدمان بعد توقيع الاتفاق النووي مباشرة كرر أوباما ما ذكره في لقائه الأول، وإن كان من خلال جمل وتعبيرات مختلفة قليلًا. يقول أوباما: "حينما تشاهد الأخبار من المنطقة تبكي، ليس فقط لحال أطفال سوريا المهجرين أو أطفال اليمن الذين يعيشون أوضاعًا إنسانية صعبة؛ بل لحال الشباب الإيراني والسعودي والكويتي والذين يسألون أنفسهم لماذا لا نملك ما يملكه شباب فنلندا وسنغافورة والصين وإندونيسيا والولايات المتحدة؟ لماذا ليس لدينا ذات الإمكانات ونفس الشعور بمستقبل أفضل؟"، ويكمل أوباما حديثه: "هذا هو ما يجب على قادة هذه الدول التركيز عليه. نعم علينا أن نستمع لحلفائنا السنة، ولكن يجب ألا نقع في فخ إلقاء كامل اللوم على إيران؛ فمواطنو بعض دول الخليج هم أكثر المشاركين في التنظيمات الجهادية". ويستطرد أوباما في حديثه بالإشارة إلى قضية الحوثيين في اليمن فيقول: "إن هناك مبالغة حول الدور الإيراني في اليمن. فحسب معلومات الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية، لا نجد ما يؤكد أن إيران كانت تتحرك وفق مخطط استراتيجي وأنها دفعت الحوثيين للاستيلاء على السلطة في صنعاء؛ بل إن السبب الحقيقي هو ضعف الحكومة المركزية في اليمن، وهو ما استغلته إيران وأنصارها. فطهران تتحرك وفق مبدأ (انتهاز الفرص)"، وهنا يوجه أوباما حديثه للحكومات الخليجية بأن "تمنع نشوء فرص تستغلها إيران؛ وذلك من خلال العمل على تعزيز تماسك مجتمعاتهم واحتواء الجميع ومعالجة شعور المواطنين الشيعة بالتهميش". تلك كانت رؤية واضحة حرص الرئيس الأمريكي على تكرارها من أجل أن نسمعها ونعيها كونها تدل على قناعات وتوجهات للسياسة الأمريكية تجاه الخليج؛ إلا أننا تجاهلناها وانصرفنا عنها إلى تكرار الشكوى بعدم الوثوق في التزام إيران بالاتفاق والخشية من آثار رفع العقوبات على تعزيز سلوك طهران التخريبي في المنطقة. وهذه بلاشك مخاوف مشروعة؛ إلا أننا نخدع أنفسنا حين نصر على تجاهل الجانب الآخر والمهم للرؤية الأمريكية التي عبر عنها الرئيس أوباما بشكل صريح غير مسبوق. لقد كانت العلاقات الخليجية الأمريكية تقوم على فصل تام بين الداخل والخارج؛ حيث اقتصرت الشراكة الاستراتيجية على مسائل النفط والتحرك الخارجي المشترك وترك الشأن الداخلي لحكومات الخليج؛ فلم تكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تهتم بما يحدث داخل دول الخليج فهذا كان شأن حكوماتها ولا تعلق عليه إيجابًا أو سلبًا. استمرت تلك العلاقة المثالية حتى جاءت هجمات سبتمبر الإرهابية التي فتحت الداخل الخليجي وتحديدًا السعودي على مصراعيه؛ وأصبح مكونًا رئيسًا في العلاقة مع واشنطن. وتدريجيًا، بدأت ملامح اهتمام أمريكي بالأوضاع الداخلية في دول الخليج؛ بدءًا بالمناهج الدراسية، مرورًا بحقوق الإنسان، وانتهاءً بآليات الحكم. هذا الاهتمام المفاجئ بأحوال المواطنين الخليجيين لا يعبر عن موقف مبدئي، بل كان نتيجة لتقييم بأن الهجمات الإرهابية وخطر الإرهاب بشكل عام تمتد جذوره داخل هذه المجتمعات وطريقة تكوينها الثقافي وأوضاعها السياسية. فوفقًا لهذا التقييم الذي أجرته أجهزة ومؤسسات بحثية أمريكية، فإن استهداف الغرب بالإرهاب ليس سوى ثمن معاناة أبناء هذه المجتمعات الذين يحتجون بشكل غير مباشر على أوضاعهم وعلى موقف الغرب منها؛ بسبب علاقة التحالف التاريخية التي تربطه بحكوماتهم. وبغض النظر عن صحة هذا التقييم وموضوعيته، فالمؤكد أنه أصبح يوجه السياسة الأمريكية تجاه المنطقة؛ حيث قدمت واشنطن وحلفاؤها عدة مبادرات للإصلاح الداخلي، ووجهت انتقادات من خلال تقارير حقوقية تصدرها وزارة الخارجية؛ إلا أن الحديث عن الأوضاع الداخلية بشكل مباشر وصريح وقوي لم يحدث سوى الآن ومن الرئيس أوباما تحديدًا، ولعل هذا يشير إلى تحول تدريجي في التقييم والرؤية إلى قناعة راسخة. ولذلك؛ فإن من المهم محاولة رصد هذه التحولات في الرؤية الأمريكية لدول الخليج ومعرفة إن كانت ستصبح قناعة مشتركة يحملها كل رئيس قادم للبيت الأبيض. قراءة ورصد هذه التحولات أمر في غاية الأهمية؛ فنتائجها لن تقتصر على مجرد توجيه مطالب وممارسة ضغوط على دول الخليج للتغيير السياسي والإصلاح، بل ستتجاوز ذلك إلى صياغة نظرة جديدة شاملة لدول الخليج وموقعها من الاستراتيجية الأمريكية وكذلك في مجمل التفاعلات الدولية والإقليمية. والمؤسف حقًا أن دول الخليج فوتت فرصًا مهمة كان لها أن تحول دون أن تتعرض لهذه الانتقادات الحادة، سواء من الإدارة الأمريكية أو غيرها من دول ومؤسسات دولية، وهي انتقادات يظهر أنها ستستمر وتشير إلى تراجع في مستوى التقدير والاحترام الدولي للأنظمة السياسية الخليجية. فقد شهد الخليج سلسلة من الإصلاحات السياسية والحقوقية مهدت الطريق أمام مشاركة المواطنين في صناعة القرار وأعطت مؤشرات على إعادة صياغة الأنظمة السياسية على أسس حديثة وبناء مجتمعات مدنية وتعزيز حقوق الإنسان. ولو قصرنا الحديث على المملكة لأهميتها الخاصة فسنتذكر ما حدث قبل عشر سنوات تقريبًا من مبادرات تأسيس جمعيات مدنية وبدء الانتخابات البلدية ومناخ واسع من حرية التعبير وحوارات فكرية عميقة وشفافية حول قضايا الهوية والتعايش والوحدة الوطنية والإصلاح ومحاولات جادة لمكافحة الفساد. تلك الخطوات المهمة أسست لحالة شعبية من التفاؤل والأمل في مستقبل زاهر. إلا أن تلك الحالة الإيجابية، والتي جعلت البعض يصفها ب"ربيع المملكة"، لم تستمر طويلًا؛ حيث تلاشت سريعًا. والمفارقة أن الربيع العربي، والذي كان له أن يعزز تلك التطورات الإيجابية التي سبقته بشكل تدريجي دون ضجيج، تسبب في إجهاضها، حين خلق حالة من الخوف من التغيير خشية من نتائجه؛ ما عزز التوجه المتحفظ في الأساس نحو فكرة الإصلاح والتطوير. أصحاب هذا التوجه فاتهم أن "ربيع المملكة" بدأ بمبادرة من "فوق" وعبر عن رؤية الملك عبد الله -رحمه الله- المبكرة والاستشرافية للتحولات الكبرى التي شهدها العالم وتتجه في مجملها نحو "تمكين الأفراد". ولذلك؛ كان ربيعًا مختلفًا في مساره ومآلاته عن الربيع العربي الذي بدأ عفويًا من الشارع وعبر عن حالة متقدمة من السخط الشعبي. إصلاحات الراحل -رحمه الله- ورغم محدوديتها كانت ستؤسس لمرحلة جديدة تجنب المملكة الوصول إلى الحالة الشعبية المتقدمة والتي تظهر الدراسات المقارنة للتغير السياسي في كافة المجتمعات حتميتها في حال تجاهل مقدماتها، وتفوت الفرصة لبلوغها مداها من خلال مشروع إصلاح شامل. ختامًا، علينا أن نقر أن الرئيس الأمريكي وإن كنا نتضجر من حديثه؛ إلا أنه حديث مهم من رئيس أهم دولة وقفت ولا تزال بجانب دول الخليج، وهي الدولة الوحيدة التي تستطيع متى ما رغبت التأثير على مسار الأحداث في العالم حين ترى ضرورة ذلك. ومن خلال دراسة وتدريس العلوم السياسة لأكثر من ثلاثين عامًا، وبحكم عضويتي في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وتمثيلي للمملكة في الهيئة المستقلة الدائمة لحقوق الإنسان -أعلى منظمة حقوقية في العالم الإسلامي-؛ أستطيع القول إن المملكة لا تزال تملك رصيدًا كافيًا لاستئناف مسيرة الإصلاح الشامل (ثقافيًا، سياسيًا، إداريًا) يعيد للدولة الحيوية ويضعها في الموقع الحضاري الذي تستحقه ويعزز المكانة الإقليمية والدولية لدولة يتطلع مئات الملايين من الناس لها ويمنحونها مكانة خاصة، ولكن استئناف المسيرة لا يتحقق دون قناعة من يملك القرار بضرورتها وإدراكه حجم وعمق التحولات في العالم وشموليتها. إصلاح كهذا قادر على تجاوز "ثنائية التغيير والاستقرار" التي تحولت إلى عائق ذهني منيع أمام أي مبادرة إصلاحية.