أثار قرار البرلمان الألماني (بوندستاغ) منع طاقم عمل برنامج سياسي ألماني ساخر من دخول مبناه، انتقاد وسائل الإعلام الألمانية، الذي تساءل كثير منها حول مدى توافق هذا المنع مع حرية التعبير والصحافة المكفولة في ألمانيا دستورياً. هذا القرار الذي طال برنامج "هويته شو"، أو (استعراض اليوم) بالعربية، والذي يستقطب نحو ثلاثة ملايين مشاهد أسبوعياً ويبث على القناة الألمانية الرسمية الثانية (زيد دي إف)، بررته إدارة البرلمان بأن البرنامج "لا يقوم بتغطية سياسية أو برلمانية"، ما يتعارض مع القوانين الداخلية للبرلمان، التي تمنح تصاريح التصوير للطواقم الإعلامية بناءاً على ذلك. احتجاجات ضد البرلمان الألماني من جانبه، اعتبر مقدم البرنامج، أوليفر فيلكه، هذا المنع انتهاكاً لحرية الإعلام في ألمانيا، وذلك أثناء عرض إحدى حلقات البرنامج، التي تضمن تقريراً متلفزاً لمحاولة أحد مراسلي البرنامج دخول مبنى البرلمان في العاصمة برلين، ليواجه بحارس المبنى، الذي يطلب منه مغادرته. كما تلقى البرلمان، بحسب ما ذكر موقع "شبيغل أونلاين" الإخباري الألماني، نحو 600 رسالة احتجاج على هذا المنع. وفي حديث لDW عربية، يعتبر الخبير الإعلامي الألماني، البروفسور لوتز فروبرودت، أن البرلمان لم ينتهك حرية الصحافة، وأن المنع متوافق مع قوانينه الداخلية، التي يجب على كل صحفي يتقدم بطلب ترخيص تصوير، احترامها. ويستدرك فروبرودت قائلا إن"رئاسة البرلمان لم توفق في سحب تصريح التصوير من طاقم البرنامج الساخر، لأن رئيس البرلمان، نوربرت لامرت، يعتبر من محبي السخرية السياسية. هذا الحادث فردي، وأعتقد أن تغطيته بهذا الشكل المكثف سيؤدي إلى عدم تكراره مرة أخرى..." هذا "الحادث" في ألمانيا قد يعيد إلى الأذهان ما جرى للإعلامي الساخر باسم يوسف في مصر، وتوقف برنامجه الشهير "البرنامج"، الذي كان يبثّ على قناة "إم بي سي مصر". آنذاك، عدّد باسم يوسف، في مؤتمر صحفي، الأسباب التي دفعته لوقف البرنامج، ومن بينها الضغط الذي مورس على القناة، إضافة إلى خوفه على أمنه الشخصي وأمن أسرته. "أسباب منع البرنامج مالية" ------------------------------------ لكن الخبير الإعلامي المصري، الدكتور ياسر عبد العزيز، لا يرى أسباباً سياسية لمنع "البرنامج"، ويؤكد أن وراء الموضوع التزامات مالية بين باسم يوسف ومنتج البرنامج والقناة التي تبثه. ويضيف عبد العزيز، في حوار مع DW عربية، أن "باسم يوسف توقف عن برنامجه في ظل توافق بينه وبين المنتج والمحطة ... السيد باسم تعرض إبان حكم الإخوان المسلمين لمصر لتهديدات أكبر من ذلك واستدعي إلى المحكمة وكان يتعرض لشكل من أشكال القذف والسب المباشر والمتواصل ولم يتوقف". توقف برنامج "البرنامج" في ظل حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها مصر، والتي زادت عليها الهجمات الإرهابية التي تتعرض لها بشكل مستمر، ينبئ بتراجع في مجال الحريات، لاسيما حريتي التعبير والرأي، في ظل عزوف الجمهور المصري – المحب للسخرية – عن البرامج التي تسخر من الوضع السياسي الراهن. ويعلل الدكتور ياسر عبد العزيز ذلك بأن "المجتمع المصري في مجموعه العام يريد ويقبل السخرية ويحرض عليها حينما (تتعلق هذه السخرية) بمن يناصبه العداء أو ب'الآخر"، أو بمن يريد أن ينتقده أو ينال منه. أما حينما يتعلق الأمر بالسخرية من الذات ومن الأصدقاء والحلفاء، أتصور – للأسف الشديد – أن المجموع العام في مصر يبدي حساسية مفرطة في هذا الأمر، وأنت تستطيع مشاهدة ذلك من خلال النكات التي تتعلق بالزعماء والرؤساء. فكلما كان الزعيم مرتبطاً بالوطنية أو التصور الوطني المصري، كلما قل انتقاده والسخرية منه والعكس صحيح تماماً". "باسم يوسف لم يلتزم بقواعد السخرية السياسية" ----------------------------------------------------- قد يبرر هذا التفسير الإقبال الشديد والشهرة التي حظي بها باسم يوسف وبرنامجه إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، لمصر، إذ كان الرئيس مرسي لا يتمتع بشعبية في أوساط المصريين، وهو ما أدى -النهاية – إلى المظاهرات التي عمت مصر وانتهت بعزله على يد القوات المسلحة في الثالث من يوليو/ تموز عام 2013. وفي هذا السياق أيضاً، كتبت الباحثة الإعلامية السعودية الدكتورة نجاة السعيد في صحيفة "العرب" اللندنية مقالاً أشارت فيه إلى أن "'البرنامج"، الذي يقدمه باسم يوسف ... يسخر من كل ما يعتبره الشعب المصري وطنياً ومن كل من اعتبره منقذاً لوطنه ولم يسخر إطلاقاً من أي شيء أثار غضبه"، في إشارة إلى اقتصار باسم يوسف انتقاده وسخريته طوال فترة بث برنامجه على "إم بي سي مصر" على الجيش المصري والرئيس الحالي (وزير الدفاع آنذاك) عبد الفتاح السيسي، بالإضافة إلى الإعلاميين المصريين الذين دعموا ترشح السيسي للرئاسة". واعتبرت السعيد في مقالها أن باسم يوسف خالف "قواعد الكوميديا الساخرة"، عبر انتقاده لكل من يخالفونه آراءه السياسية وعدم انتقاد من يوافقونه تلك الآراء، بعكس "قدوته" جون ستيوارت، الذي ينتقد الطيف السياسي الأمريكي بأكمله من جمهوريين وديمقراطيين، وصولاً إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، علماً بأن ميول ستيوارت ديمقراطية. ويتفق الخبير الإعلامي ياسر عبد العزيز مع هذا الطرح، إذ يرى أن "جمهور باسم تحول ... من كونه جمهوراً لأداء إعلامي – له ما له وعليه ما عليه – إلى جمهور سياسي يريد أن يستخدم باسم يوسف للنيل من خصومه وأعدائه". ويحذر عبد العزيز من أن المصريين باتوا يبدون حساسية مفرطة تجاه السخرية ممن يعتبرونهم رموزاً وطنية تدافع عنهم ضد الإرهاب، وذلك بسبب تزايد "الفخر الوطني وظهور التمركز حول الذات. وحينما تزيد النزعة الديماغوجية ويتم الحديث عن الإرهاب كل يوم، هذه الأمور كلها تعيد التفكير في إطار حرية الإعلام". لكن منظمات حقوقية دولية كان لها رأي آخر، إذ نددت منظمة "مراسلون بلا حدود" بالشكاوى التي قدمت ضد باسم يوسف وبوقف برنامجه الذي كان يتابعه ملايين المصريين، إذ أدت الانتقادات الساخرة التي وجهها إلى قائد الجيش آنذاك، عبد الفتاح السيسي، إلى استثارة غضب أنصار الأخير. وتضيف المنظمة، في تقرير لها، أنه وبعد أسبوع من بدء تقديم برنامجه - بعد أربعة أشهر من التوقف - وإثر تقديم شكاوى عدة ضد باسم يوسف، أعلنت قناة "سي بي سي" المصرية، التي تبث هذا البرنامج، وقفه. واعتبرت "مراسلون بلا حدود" أخيراً أن "حرية الانتقاد، خصوصاً في إطار البرامج الساخرة، يجب أن يكون لها مكانها في بلد يتطلع إلى الديمقراطية". مختارات عزوف عن السياسة واتجاه إلى التسلية ------------------------------------------------- لكن في ألمانيا تختلف الأمور إلى حد كبير، وإن كان مستقبل السخرية السياسية لا يبدو للوهلة الأولى واضحاً، حسب ما يذكر الخبير الإعلامي البروفسور لوتز فروبرودت، ذلك أن قنوات التلفزة الخاصة (التي لا تشارك الدولة الألمانية فيها) بدأت تركز على الكوميديا الترفيهية البعيدة عن المحتوى السياسي، وذلك إرضاءاً لجمهور باحث عن التسلية واقتداءاً بالنموذج الأمريكي للقنوات الخاصة، التي تبتعد في برامجها عن السياسة. ويوضح فروبرودت: "بشكل عام، فإن برامج الكوميديا الترفيهية تحصل على أفضل أوقات المشاهدة، بينما يتم حشر برامج السخرية السياسية في آخر الليل ... على سبيل المثال، في موقع "يوتيوب"، تعتبر مقاطع الفيديو المسلية هي الأكثر مشاهدة بالمقارنة مع مقاطع السخرية السياسية". ومع وجود هذه الفروقات الاجتماعية والثقافية والأمنية أيضاً، تبقى السخرية السياسية في انحدار نسبي، سواءاً في ألمانيا أو في دول عربية مثل مصر، مع اتجاه الكثيرين إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن التسلية وبعيداً عن المواضيع السياسية، التي باتت بالنسبة للكثيرين في أوروبا عبئاً يومياً، ولسكان الشرق الأوسط واقعاً مؤلماً يجبرهم على التعايش معه. كود ال HTML : https://www.youtube.com/watch?v=7ChyfvHFmX0