عربي 21 اللندنية قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "ومن عجيب أمره (أي: الثعلب) أنه أتى إلى جزيرة فيها طير، فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئا، فلم يُطق، فذهب وجاء بضغث من حشيش وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير، ففزع منه. فلما عرفت (الطير) أنه حشيش رجعت إلى أماكنها، فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة، حتى تواظب الطير على ذلك وألِفه، فعمد إلى جُرزة أكبر من ذلك فدخل فيها، وعبر إلى الطير. فلم يشُك الطير أنه من جنس ما قبله.. فلم تنفِر منه، فوثب على طائر منها وعدا به". إنه الأسلوب ذاته الذي يتبعه ثعالب العصر مع المسلمين ومقدساتهم، يأخذونهم بالتدرّج لإخماد الحسّ الديني، وإماتة الشعور بالغيرة والغضب إزاء التطاول على مقدسات الإسلام ورموزه. في السابق، كان الخبر عن أي إلحاق أضرار بالمسجد الأقصى أو أي اقتحام صهيوني يتعرض له، يترتب عليه موجة عاتية من الغضب الإسلامي، مظاهرات شعبية، واحتجاجات رسمية، وفعاليات تلهب حماس الجماهير، ويصير المسجد الأقصى -أولى القبلتين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم- هو حديث الجموع. يومًا بعد يوم، وحدثا بعد حدث، بدأنا نألف مثل هذه الأخبار، وتحولت الصرخات والدموع إلى عبوس، ثم إلى وجوم، ثم إلى (زمّ الشفتين)، وصرنا أشبه بمن يدفن ميته وينزل من المقابر يلقي النكات، وكأن شيئا لم يكن. وأخشى أن يموت فينا الشعور، ونستيقظ في يوم تطالعنا فيه وسائل الإعلام بأن الاحتلال الغاشم قد هدم المسجد الأقصى. كثير من الناس يعتقدون أن المسجد الأقصى معصوم من أن تمتد إليه يدٌ، وأن الله تكفّل بحفظه من الهدم كما تكفّل بحفظ القرآن من التحريف. وهذا خطأ فادح يترتب عليه مزيد من التقاعس لنصرة الأقصى، فهدم المسجد ليس بممتنع قدَرَا، ولم يرد في الكتاب والسنة ما يفيد ذلك. وحول هذا الأمر، يقول الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل، في كتابه "قبل أن يهدم الأقصى": "ليس بين أيدينا نص معصوم يدل على أن هدم المسجد الأقصى ممتنع قدراً.. وليس شرطاً أن ترد أحاديث الفتن بكل ما يقع منها". وحتى الكعبة ليس هناك نصّ يدل على امتناع هدمها، فقد تهدمت أيام الحجاج، واقتلع القرامطة حجرها الأسود، بل وردت الأدلة على تخريبها واقتلاعها حجرا حجرا في آخر الزمان. وأما حادثة أبرهة فكانت لعلاقتها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أهل العلم. والأسلوب الخبيث ذاته يتبعه هؤلاء الثعالب إزاء شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تدركون الفرق بين ما حدث أيام الرسام الهولندي ورسومه المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم، وردة الفعل العنيفة، وبين الإساءات المتكررة في هذه الآونة، أقربها معرض تكساس الذي عرض رسوما مسيئة للرسول، وكانت ردة الفعل باهتة للغاية. هذا هو عين ما يريدونه، إضعاف روح الغيرة والغضب إزاء الانتهاكات المتلاحقة لمقدساتنا ورموزنا، كتوطئة لأحداث أشد وأدهى. إن ردود الفعل المعتادة النمطية تجاه هذه الوقائع تضرّ أكثر مما تفيد، وتسهم في تبلُّد الحس لدى الجماهير الإسلامية. ينبغي في مثل هذه الأحداث أن يكون هناك تنسيق بين القوى الشعبية والتيارات الإسلامية والمحافِظة، والمؤسسات والهيئات العلمية المختلفة، للوصول إلى رؤية موحّدة أكثر فعالية. هذا التنسيق لا بد أن يكون هدفه الضغط على الدوائر الرسمية من أجل تحرك دولي دبلوماسي قوي، واستغلال تقاطع المصالح بين حكومات الدول؛ لإجبار تلك الدول على اتخاذ خطوات من شأنها منع هذه الاستفزازات. لكنّ الأهم من ذلك هو بناء العاطفة الإيمانية في الشعوب عن طريق العلماء والدعاة والمصلحين، لكي تنتقل من حالة الحماسة الآنية، التي سرعان ما تزول، إلى عاطفة حية مستقرة في الوجدان، ومترجمة إلى واقع عملي يكون علامة على تعظيم هذه المقدسات. فلا يُعقل أن يخرج شاب في مظاهرة نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم أو الأقصى، وهو لا يقيم فرائض الله، أو يكون عاقّا لوالديه، أو قاطعا لرحمه، أو يتعامل بالربا. نعم هو شيء طيب أن يعبر عن حبه للمقدسات ونقمته على المتطاولين عليها، لكنّها ستكون ثورة وقتية، وسرعان ما يخفُت بعدها وهج هذا الحماس أو يموت. إن الوصول إلى مواقف قوية تجاه الدفاع عن المقدسات، لن يتأتّى عبر سياسة التنفيث وإفراغ شحنات الغضب بمقالة أو تدوينة أو تغريدة أو مؤتمر في أحد الفنادق -وإن كانت لها أهميتها- لكننا، لكي نصل إلى ذلك، نحتاج إلى تشكيل وعي، وتربية جيل غرست فيه معاني وقيم الإسلام، وارتبط بمقدساته ورموزه.