د. صالح السلطان الاقتصادية - السعودية كلمة ترميش في اللغة لها معان كثيرة، ربما كان أشهرها احمرار في جفن العين. لكنه أضيف إليها في يومنا معنى جديدا. لنا أن نلخص هذا المعنى بمثال بيع سلعة كالسيارة بالدين بأسعار مبالغ فيها، أو مقابل وعد بعوائد عالية جدا. المشتري يبيعها عادة حاضرا للحصول على سيولة فورية. وهدفه، كما يقول، استثمار هذه السيولة في استثمارات عالية العوائد، مع وعدد بالسداد في وقت قصير، عادة قبل سنة. البائع طامع بهذا العائد المرتفع. قد يكون المشتري صادقا ابتداء في دعواه، لكن العملية انحرفت عن مسارها. قرأت أن البائع أو المستثمر يسمى الرامش والمشتري المرمش والعملية ترميش. وقرأت أن أصل التسمية تعود إلى شخص اسمه أو لقبه "أبو الرمش"، بدأ بممارسة الطريقة السابقة قبل سنوات قليلة. كيف يسدد المرمش؟ يأخذ من هذا ليسدد من سبقه وهكذا. طبعا لن يستطيع الاستمرار في السداد إلى ما لا نهاية مع تصاعد حجم الالتزامات، وعجزه عن سدادها إذا أحسنا الظن فيه. أبو الرمش ليس أول ممارس للعملية في مجتمعنا، حيث أذكر جيدا وقبل سنين تزيد على عشر أن هناك من عمل العمل نفسه. كما أتوقع أن قراء كثيرين يتذكرون سالفة مكينة سنجر قبل سنوات. هل أصل الفكرة والعملية من اختراعنا؟ الممارسة جزء من ممارسة معروفة في عالم المال والاقتصاد باسم سلسلة بونزي scheme Ponzi، وتتلخص بالكلمات التالية: الدفع للعملاء القدامى من رأس المال الجديد الذي يقدمه العملاء الجدد، وليس من الأرباح. هذا فرق جوهري عن المعتاد. وكثيرا ما يبدأ العمل بصورة مشروعة، لكن الفشل في تحقيق الأرباح المتوقعة يدفع المرمش إلى ممارسة سلسلة بونزي. وقد يتطور الأمر إلى عمليات احتيال كثيرة. بل أكثر عمليات النصب في توظيف الأموال استندت ابتداء إلى الفكرة نفسها، لكن بطرق تنفيذ وتقنيات مختلفة. ومن الممكن أن تتناول الترميش عمليات مالية مثل المتاجرة بالأسهم والسندات وأشكال متعددة من الأوراق المالية. تعود التسمية إلى شارلز بونزي الذي مارسها قبل 100 عام تقريبا. ولم يكن مخترعا للفكرة، فقد استقاها من روايات كرواية تشارلز ديكنز عام 1844. أشهر مرمش أو ممارس لسلسلة بونزي في عصرنا برنارد مادوف (من مواليد 1938) ومساعدوه. ومادوف يهودي أمريكي. وقدرت أوساط حجم الاحتيال بنحو 65 مليار دولار، وحكم عليه بالسجن ما بعد المؤبد (أقصد عدد سنوات محكومية السجن تتجاوز أعمار البشر). من الغرائب أن مادوف استطاع أن يغلف أعماله تغليفا أخفاها عن لجنة الأوراق المالية والتبادلات (SEC، أكبر جهة للرقابة المالية في الولاياتالمتحدة) لسنوات طويلة، ولم تكشف إلا بعد خراب مالطا كما يقول المثل. كان مادوف يعلن أرباحا مغرية صنعت له شهرة وأكسبته ثقة عدد كبير من المستثمرين، وكثير منهم من الأسماء اللامعة. هذه الأرباح جذبت إيداعات استثمارية جديدة. الأرقام التي يعلنها مادوف فيها مغالطات، فكيف مرت على الجميع: أصحاب ودائع ولجان إشراف ومراقبة على السوق؟ يرى البعض أنها الثقة الزائدة بمادوف مقرونة بصلف المودعين وتلك المؤسسات، التي صمت آذانها عن سماع النقد. كانت هذه النقطة من النقاط التي تعزز انتقادا موجها إلى نظرية في الاقتصاد الكلي تقوم على فرضية التوقعات الرشيدة في سلوك الناس من حيث المتوسط. لتطبيق سلسلة بونزي بصورة تصعب كشفها، يلجأ المرمش إلى عمليات تمويه وتضليل وتزوير متقنة قدر الإمكان. مثلا، مكاتب يوحي مظهرها بأعمال تؤدى بأعلى مهنية، بحيث يبدو للزوار أن كل شيء على ما يرام. إدارة احترافية تعرف ما تصنع، وكيف تموه على الجهات الرقابية. تعمل الجهات الرقابية على مراجعة مدى الالتزام بالضوابط والقواعد الموضوعة، وتحرك التدفق النقدي والتسجيلات. ورغم ذلك يلجأ المرمشون المحترفون إلى ما يفشل كشف الخداع والغش فيما وراء الجدران والمكاتب التي يعاينونها. والأساس في هذا حجب المعلومات أو التلاعب بها. ومن الأمثلة صناعة وثائق قائمة على التزوير، تؤكد وتبرر عمليات تجارية لم تحدث أصلا. ومن المستبعد جدا أن تنشأ شكوك لدى العملاء الذين تسلموا هذه الوثائق بأن الأمور لا تجري على ما يرام. ومن الأمثلة استخدام التقنية وأرشفة المعلومات بطريقة تخفي العبث والعمليات غير المشروعة. والموضوع له تفاصيل كثيرة.