العرب اللندنية "الآثار النبوية تستحق اعترافا سعوديا رسميا بكونها ثروة إنسانية لا تقدر بثمن قبل أن تعني كنزا وطنيا أو إسلاميا." أصدر وليّ ولي العهد الأمير محمد بن نايف تعميما ﻷمراء المناطق مفاده منع إزالة أي أثر تاريخي أو تراثي إلا بعد استئذان الهيئة العامة للسياحة والآثار، مع التأكيد على الجهات الحكومية بضرورة حفظ الآثار الإسلامية والتاريخية. نحن نتحدث هنا عن توجه ممتاز يستحق الإشادة والتحية، والمطلوب استكماله بإعادة الاعتبار للآثار النبوية التي تعرضت على مر عقود مضت ﻷبشع تجريف، تارة بذريعة التوسع العمراني للحرمين الشريفين أو لغيرهما، وتارة أخرى بمراعاة خطاب ديني متطرف هوسه مفاهيم البدعة والشرك. لقد خسر الوطن والمسلمون، وخسرت الإنسانية، رصيدا كبيرا من التاريخ متحولا إلى أسطورة، والآثار هي ما يميّز التاريخ عن الأساطير كما يقول المفكر المعماري سامي عنقاوي. لم يبق من الآثار النبوية إلا العشر، وربما أقل، فالواجب أن تحافظ عليها الجهات الرسمية وتحترمها، تكفيرا عن الأمس، وتحقيقا للاستمرارية بين الماضي والحاضر، وصولا إلى الأجيال المستقبلية. لا يمكن أن نصف الخطاب الديني المعادي للآثار بغير التطرف، وهو ألطف لفظ، فما رأيناه محليا من المتطرفين يتشابه مع أفعال داعش في سوريا وفي العراق، ويتشابه كذلك مع خطاب بعض المتطرفين الصهاينة. في عام 2012 وقعت حادثتان ذاتا رمزية مترابطة، الأولى هي إزالة القبة الخضراء من شعار فعاليات "المدينةالمنورة عاصمة للثقافة الإسلامية" تلبية لتحفظ داعية متطرف، والثانية اعتماد إسرائيل لصورة رسمية عن القدس أزيلت منها قبة الصخرة. إسرائيل تعرف قيمة الآثار جيدا وتحترف استغلالها سياسيا كالهيكل البائد المنتظر، بل إنها تحاول اختلاق آثار يهودية -في مقابل نظرتها السلبية للآثار الفلسطينية والعربية والإسلامية- لتشرعن احتلالها الغاشم وتخرصاتها الدينية، وغيرها يمحو آثاره مسهلا اختراقه ثقافيا وفكريا على الأقل. تعامل إسرائيل كدولة مع الآثار العربية والدينية يعتبر ملائكيا قياسا بداعش التي ارتكبت مجازر أثرية فظيعة في كل من سورياوالعراق كما ارتكبت المجازر البشرية، والذريعة هي ذاتها التي يرفعها المتطرفون في المملكة؛ البدعة والشرك. لذلك لم أستغرب هياج المتطرفين الدواعش على هامش فعاليات معرض الكتاب في الرياض دفاعا عن داعش، واعتراضا على حقيقة تاريخية صدح بها معجب الزهراني "المسلمون الأوائل احترموا الآثار". الآثار المحمدية هي ذكرى النبي، ومعاملتنا لها يجب أن تمثل نظرتنا إليه، والإساءة لآثاره -بتلك الصورة الفجة وغير المبررة التي عايشناها دهورا من الزمن- امتهان لقيمته. تخيل لو وجد الآخرون آثارا مباشرة ﻷنبيائهم كيف سيعاملونها؟ المتطرفون يسيئون إلى النبي بفتاواهم وبسلوكهم وبخطابهم، وموقفهم من آثاره امتداد لذلك، خصوصا إذا علمنا أن الرسول الأعظم ربما يكون النبي الوحيد الذي سلمت آثاره المباشرة حتى دمر المتطرفون أغلبها في زمن قريب. اعتداء المتطرفين على مقام النبي مباشر في أفعالهم، وغير مباشر أيضا حين يتسببون في الإساءة أكثر من غيرهم للنبي وللإسلام مضعفين الدفاع عنهما. آن الأوان لصم الآذان عن صراخ المتطرفين وهلاوسهم، والحقيقة أن اهتمام الدولة السعودية بالآثار الملكية والمعمارية في جهود الهيئة العامة للسياحة والآثار يثبت أن الرأي الرسمي لا يتفق مع المتطرفين، حتى وإن اضطر لمراعاتهم في مراحل سابقة ﻷسباب سياسية أو عمرانية، وما ندعو له هو أن تقوم الهيئة العامة بمعاملة الآثار النبوية كما تعامل غيرها من المعالم المرتبطة بتاريخ الدولة السعودية، مع أن ظلال سيد الخلق -بلا شك- تستحق تقديرا أكثر وأكبر. في البلد الذي شهد مهبط الوحي وانبلاج فجر الإسلام، هل يمكن أن يبلغنا الأمير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة والآثار عن دور جهازه في توثيق آثار النبي -وأخص هنا المعالم- وحمايتها واستثمارها محليا وعالميا كما فعل مع غيرها؟ الآثار النبوية تستحق اعترافا سعوديا رسميا بكونها ثروة إنسانية لا تقدر بثمن قبل أن تعني كنزا وطنيا أو إسلاميا. الأثر رمز لهوية ولتاريخ، خسارته لا تعوض أبدا، والاعتداء عليه محق ذاكرة ومسخ واقع وتشويه مستقبل.