د. عبد الله المدني الاقتصادية - السعودية لم يعد بمقدور أحد أن يجادل في جدوى الأنظمة الملكية لجهة تحقيق الاستقرار الداخلي، ومنع الحروب الأهلية، والتصدي لتفسخ الدولة، والنهوض بمستويات المعيشة. والأمثلة على هذا الصعيد كثيرة تقابلها أمثلة تقول لنا إن الأنظمة التي ورثت الملكيات لم تنجز أي شيء من برامجها التي دغدغت بها عواطف السذج، كالعدالة والمساواة والحريات والرخاء والتنمية والنهضة. بل إنها دمرت ما كان قائما من مظاهر الرقي والمدنية، وأفسدت الحياة السياسية، وأقامت المعتقلات، وكممت الأفواه، وريفت المدن، وأشعلت الحروب الجهوية والطائفية المقيتة، وأرجعت البلاد والعباد سنوات إلى الوراء. وبعبارة أخرى "ما من ملكية سقطت إلا وتلتها حالة كارثية"! حدث ذلك في مصر والعراق وليبيا واليمن وإيران وأفغانستان والحبشة، وأخيرا في نيبال التي هي موضوع حديثنا اليوم. فهذه المملكة المعزولة ذات الموقع الجغرافي الصعب والموارد المحدودة، لكن المبتلاة بتقسيمات عرقية ولغوية متنوعة "نحو 60 لغة محلية و103 إثنيات أكبرها إثنية تشيتري بنسبة 16 في المائة من عدد السكان البالغ 26.6 مليون نسمة" كانت تعيش في أمان وهدوء في ظل نظامها الملكي الدستوري إلى أن خرج نفر من شعبها يحمل السلاح من أجل التغيير بإسقاط الملكية. ولو أن هذا النفر كان يتبنى أجندة واقعية متحضرة ومتوافقة مع متطلبات القرنين العشرين والحادي والعشرين لوجدنا له عذرا، لكن الغرابة أن هواه كان ماويا بمعنى رغبته في إقامة نظام بديل ينتهج نهج النظام الماوي الذي أعاد الصينيين عشرات السنين إلى الوراء بحماقاته وسياساته الدموية والانغلاقية. ومن أجل إقامة النظام البديل دخل حربا أهلية في وقت كان فيه سدنة الماوية في بكين يلفظونها ويحاولون التخلص من إرثها الثقيل. وجملة القول أن حروب الماويين ما بين 1996 و 2006 كلفت نيبال كثيرا من الضحايا والدمار، وأفضت إلى فقدان النظام لسيطرته على أجزاء واسعة من البلاد، الأمر الذي اضطر معه الملك جينندرا "تولى العرش خلفا لأخيه في عام 2001 بعد مذبحة القصر الملكي التي قتل فيه ولي العهد الأمير ديابندرا والده الملك بيرندرا ثم انتحر" إلى إيجاد حل عبر التفاهم مع الماويين. لكن شرط هؤلاء لوقف القتال كان إنهاء الملكية، وهو شرط رضخ له الملك في نهاية المطاف. وهكذا صوّت البرلمان المنتخب في يوم 28 أيار (مايو) 2008 لمصلحة إلغاء الملكية، وإقامة نظام جمهوري فيدرالي برئيس دستوري للجمهورية ورئيس تنفيذي للحكومة. ومنذ ذلك اليوم المشؤوم، الذي جاء بعد 240 عاما من نجاح الملكية في توحيد البلاد، وإنهاء الحروب الجهوية، ومن ثم تأسيس معالم الدولة المدنية الحديثة، وتحقيق بعض النمو الاقتصادي بالإمكانات القليلة المتاحة، ونيبال تنتقل من مأزق إلى آخر، ومن تقهقر إلى تقهقر على مختلف الأصعدة. إذ لم ينجز زعماؤها الجمهوريون الجدد كما حدث في حالات مشابهة في الدول العربية سوى التوافه من الأمور مثل إزالة صورة الملك من العملة الرسمية، وتغيير النشيد الوطني، وإلغاء كلمة "ملكية" من اسم الناقلة الجوية، واستبدال أسماء الشوارع والميادين ودور العلم. بل إنهم راحوا ينفذون أجندات منظمات المجتمع المدني التابعة للولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي دفعت بسخاء لبعض الناشطين والساسة المحليين، بمن فيهم الماويون من أجل غرس وتعزيز مفاهيم الفيدرالية الهادفة إلى تمزيق وحدة نيبال وتحويلها إلى ما بين 15 و20 كانتونا. فعلى سبيل المثال لم ينجحوا من بعد سبع سنوات على زوال الملكية في أمر حيوي ومهم لإطلاق عملية البناء وطي صفحة الفوضى والحرب. ونعني بذلك صياغة دستور دائم للبلاد من قبل الجمعية التأسيسية. وهذه الجمعية المكونة من 602 عضو، التي عُهد إليها القيام بهذا العمل في عام 2008 وأنفقت على نفسها نحو 100 مليون دولار، أنهت أخيرا مدتها المحددة دون إنجاز الدستور المأمول بسبب خلافات مريرة واتهامات متبادلة بين زعماء وساسة الحكومة الائتلافية والأحزاب السياسية الكثيرة التي ولدت كالفطر في ظل النظام الجمهوري. وقد تطور الأمر إلى حد قيام بعض الساسة ومؤيديهم باقتحام البرلمان لتعطيل أعماله، علما بأن هذه الأحزاب بما فيها حزب الأغلبية الماوي المعروف باسم "حزب نيبال الشيوعي المتحد"، تسعى إلى بلقنة البلاد عبر النص في الدستور على عدد كبير من المحافظات والأقاليم بحسب التقسيمات الإثنية واللغوية، وذلك بغية أن يكون لها تأثير أكبر على هذا الإقليم أو ذاك، فيما تقاوم الحكومة هذا الاتجاه قائلة إنه سيضاعف من حجم النفقات الحكومية في وقت شحت فيه الموارد وانخفضت المساعدات الأجنبية. وبعبارة أخرى، فإن هذه الأحزاب البالغ عددها 85 حزبا "25 منها فقط ممثلة في البرلمان"، بعدم امتلاكها لرؤية موحدة حول مستقبل نيبال وتقديمها لمصالحها الضيقة على حساب مصلحة الوطن والأمة، تسهم في إيجاد مناخ غير مشجع لمن يريد تقديم يد العون والمساعدة للشعب النيبالي. وفي هذا السياق يبرز دور الهند التي لها مصالح استراتيجية في هذا البلد، ومن هذا المنطلق وعد رئيس حكومتها "راجيندرا مودي" بمد جارته النيبالية بمساعدات تنموية ضخمة تصل إلى مليار دولار. ومثل هذه المساعدة الضخمة لجهة الحجم لم يسبق للهند أن قدمتها إلى أي قطر آخر، وهو ما يشير إلى حرص نيودلهي على قطع الطريق على بكين للتدخل في هذا البلد عبر أتباع النهج الماوي ومن في حكمهم.