مكة أون لاين - السعودية كثيرة جهود تطوير القضاء السعودي ومتلاحقة في مدى زمني قصير؛ فقد صدرت أنظمة بشأن المرافعات الشرعية والإجراءات الجزائية والمحاماة، وصدر في وقت غير بعيد عن تلك الأنظمة نظام تنفيذ الأحكام، وتصنيف المحاكم وتغيير درجات التقاضي وإنشاء محاكم متخصصة. وكلها أنظمة مهمة لخدمة العدالة، لكنها متعلقة بالجوانب الإجرائية والهيكلية، لا بالأحكام التي تمثل في كل قضاء جوهره. ولذلك يمكن أن نعد الأمر الملكي الكريم القاضي بتكوين لجنة شرعية لإعداد مشروع "مدونة الأحكام القضائية في الموضوعات الشرعية" أهم حدث في القضاء السعودي؛ لأنه يتعلق بجوهر القضاء، وهو الأحكام، والنتائج المترتبة عليه نتائج حاسمة في توصيف القضاء السعودي. وأول النتائج هي إزاحة مركزية الحكم القضائي من القاضي إلى مدونة الأحكام؛ فإذا كان قيام القضاء على مركزية القاضي يعني أن يتمتع القاضي بسلطة تقديرية أوسع، فإن وجود مدونة موحَّدة للأحكام يضيِّق سلطته إلى الحد المعقول الذي لا يمكن الفرار منه. ولازم ذلك هو القضاء على تفاوت الأحكام القضائية، والقضاء على الأحكام التعزيرية المتصفة بالمبالغة المفرطة، وتوفير جهد القاضي في اختيار الحكم أو تقديره على النحو الذي يقتضي منه بحثاً متعمقاً ومشفوعاً (كما تدلل نصوص الأحكام الصادرة) بالحيثيات التي يحيلها على الأدلة من القرآن والسنة وما يقتبسه من كلام الفقهاء والتسبيب العقلي أحياناً. وهذا موقع تشريعي يجد القاضي نفسه مُلزَماً بممارسته على الرغم من أنه يعود إلى أحكام الفقهاء؛ لأنه يمارس البحث عنها والفهم لها والاختيار منها والترجيح. ويترتب على إزاحة مركزية الحكم القضائي من القاضي إلى مدونة الأحكام، اكتساب القضاء صفة مؤسسية. والصفة المؤسسية للقضاء لا تأتي من الهيكل الإداري للجهاز المؤسسي ولا من اللوائح الإجرائية، ولا من شيء آخر غير نسق القواعد والنصوص المجرَّدة التي تضبط أحكامه وفعله في حياة الجماعة. وعلى ذلك فإن الحكم القضائي هو حكم مؤسسي بالمعنى الذي يرتفع عن الفرد وعن التغير والشذوذ إلى الدوام والاستمرارية والانضباط. ومؤدى ذلك هو الفصل بين القاضي والمدونة، أي الفصل بين السلطة القضائية والتشريعية، وهذا معنى مهم من جهة المأسسة للأحكام واستقلاليتها، ومن جهة معرفة المتَّهم لموقعه، والقدرة على التنبؤ بالحكم. لكن تسمية "التدوين" هنا ليست دلالة بسيطة؛ فهو ممارسة للاختيار من أحكام موجودة ومختلفة، واجتهاد في أحكام أخرى، وتأليف هذه وتلك في نسق مُحكَم، وصياغتها بما يشف عن ذلك. هكذا يصبح لتدوين الأحكام فلسفة تفسِّر كل حكم جزئي وتتعقَّله في ضوء المدوَّنة كلها. وهذه ممارسة لا بد أن يتوافر لها من الجهد والكوادر العلمية ما يساعد على تأدية المهمة. وأحسب أن أسئلة عديدة تتعلق بما بعد الفراغ من إعداد المدونة؛ فإخضاعها للنقد والتحليل خطوة مهمة لمزيد من تدقيقها وشمولها، وإلزام القضاء بها خطوة أكثر أهمية لحياتها وتجددها، وإدراجها مع غيرها من الأنظمة العدلية في مقررات كليات الشريعة والقانون مقدمة لازمة لتخريج كوادر قضائية ملمَّة بها.