الاقتصادية - السعودية .. بينما تنشغل الجماعات بالحروب وخوض الصراعات يبرز أفراد، ملوا الخوف، كرهوا الدم، تعبوا من آلام البشر، أرهقوا من مناظر الموت .. وكأنهم يشعرون بتأنيب قوي من ضمائرهم يستغرقون في العمل الطيب الإنساني .. بعضهم حتى الغرق. هاتفني ذاك اليوم صديقي إبراهيم حسين من ألمانيا، وكان يصادف كما قال أكبر معضلة مرت عليه في حياته. لكن دعوني أقل لكم القصة التي تحكي عن هذه المقدرة البشرية الخارقة التي تتحدى كل التنانين الشريرة وأودية النار، فقط لتساعد الإنسان البائس في أي مكان وإنقاذا لأي إنسان كي لا يصير مصيره كأخيه الآخر بائسا في حطام الحياة وأهوال الخوف والألم لما يتحدا معا. تبرع طبيب سوداني صديق إبراهيم الخاص ليذهب إلى "ليبيريا" التي صارت العش الكبير لمرض "الإيبولا"، تنين الشر الأول في كل إفريقيا الوسطى الغربية. وليبيريا كأنها الرحم الأم الذي يوظف حياة فيروس الإيبولا ثم يطلقه ليحصد الأرواح على الأرض، كأفلام الخيال العلمي بل تتعدى مخيلة أكبر مخرج أو كاتب سيناريو متخصص في الرعب السينمائي. وصل الطبيب السوداني إلى ليبيريا يجاهد تنين الشر الإيبولا، بعد أن مل الخوف، ومل من سماع معاناة إخوته في الإنسانية وفي القارة من الفظائع التي من الجرأة غير الحميدة الإقدام على وصفها. الإيبولا من أكبر أعداء البشر حاليا، ونحمد الله أننا بعيدون عنه، واهتماماتنا ما زالت في شأننا اليومي الصغير الذي نتقاذف فيه النعوت والصفات كل يوم .. بينما في ليبيريا كل مواطن هناك ينتظر دوره ليموت، وليته كان من الموت الذي اعتادت عليه الإنسانية من بدئها الأول .. إنه موت بطيء يمتص آخر قطرة سيولة في الجسد البشري. والجفاف هو من أكثر الآلام شراسة وعصرا لكل خلية حتى تبدأ الأعضاء تتساقط واحدا بعد الآخر من القلب للرئة للكلى .. لكل شيء. وكل عضو يخسره المريض له آلامه التي لا تطاق. لذا كان الطبيب السوداني في مواجهة مفتوحة مع الشر المحض. بعد أن بذل الطبيب جهده، يأتي ذلك الشيء الذي لا نفهمه، ويفهمه من وضع يده ورأسه ودماغه وقلبه في الهول البشري، هنا يكون الطيبون الإنسانيون مثل طبيبنا ساهين عن كل التهديدات، ولا يستطيعون أن يبتعدوا عن الساحة. الذي حصل أن الطبيبَ مات. مات من التنين الذي يحاربه .. الإيبولا. أرجعت جثة الطبيب السوداني الألماني لألمانيا مع أن أهله في دارفور بالسودان. ومع حزن إبراهيم الجاثم على كيانه من أجل صاحبه، إلا أن ما قالته له السلطات علّمه أن الروع والهولِ يتعدى أحيانا قدرة تصدي الذهن للصدمة المخيفة. قالوا له: "سنحرق جثة صديقك". وهول إبراهيم جاء لأن الإسلاَم لا يجيز حرق جسد الإنسان. عرض حلولا مثل الدفن الملفوف كما يعملون بإفريقيا، والتجميد. وأصرت السلطات على الحرق، حتى أفاده عالم شرعي هناك أنه عند الضرورة تجوز المحرمات. تردد إبراهيم لكن لا حيلة له. هل انتهى خوف إبراهيم؟ لا. عليه الآن أن يخبر أهله المسلمين المحافظين جدا عن موت ابنهم، وأن جسدَه حُرق .. لذا يواجه معضلته الكبرى. بينما يسير المتطوعون لسحق إخوانهم سحقا بخناجرهم وأقدامهم وحتى أسنانهم .. حولنا!