الحياة دولي في الوقت الذي يُغادر شيعة الإقليم «مظلومية» امتد أثرها لقرون في وجدانهم وفي أمزجتهم ووجودهم السياسي والاجتماعي، ها هم السنة بصدد بناء «مظلومية» يجمعون عناصرها من وقائع ومآسٍ صلبة وأخرى مُتوهمة، تتراوح بين المئتي ألف قتيل سوري على يد النظام البعثي، وبين الهجوم الذي نفذه وزير الصحة اللبناني وائل أبو فاعور على متجر حلويات الحلاب في مدينة طرابلس في شمال لبنان، والذي اعتبرته فعاليات في المدينة جزءاً من الاستهدافات التي تطاولهم منذ عقود. والحال أن جماعات إقليمنا البائس، سواء خلال مغادرتها مظلومية أو خلال دخولها في نفق مظلومية أخرى، تؤكد على الوظيفة السياسية للمأساة التي تُبنى عليها «المظلومية»، لا على الوظيفة الإنسانية. هذا بالنسبة لمن كان بصدد بنائها كحال أهل السنة، أما من هم بصدد مغادرتها، وهو حال الشيعة، فعليهم الاستغراق في تجاهل قتلاهم حتى لو بلغوا آلافاً. ذاك أنه ليس للقتيل وظيفة في مشروع بناء «النصر». ليس الشيعي «ضحية» في غمرة استهداف «داعش» الأقليات التي استهدفتها في شمال العراق وفي وسطه، على رغم أن تجمعات شيعية تم استهدافها، وعلى رغم أن القتلى الشيعة خلال تدفق «داعش» على مدن الشمال وقصباته بلغوا آلافاً. الشيعي ليس ضحية على رغم أنه ضحية، ولهذا النفي والإيجاب مضمون بالغ السياسية والراهنية. ذاك أن تقمص صورة الضحية والبحث عن وظيفة لها ما عاد دأب الشيعية السياسية منذ أن صارت سلطة. فكيف يستقيم ضحيةً من هو من المفترض أنه صاحب السلطان؟ أعدمت «داعش» في سجن بادوش في الموصل نحو ألف سجين شيعي. ليس لهؤلاء مكان في الرواية الشيعية عما جرى. وهجرت «داعش» سكان مدينة تلعفر التركمان الشيعة، وقتلت منهم من قتلت واعتبرت المدينة فيئاً (غنيمة)، ولم تُضم ظلامة تلعفر إلى الظلامة الكبرى التي ارتكبتها «داعش» بالسكان الإيزيديين. فيما مضى ارتكب السنّة أمراً مشابهاً بحق ضحيتهم: فأحد التفسيرات التي أعطيت للتجاهل الذي مُورس بحق ضحايا مجزرة حماة التي ارتكبها النظام السوري في 1982، والذين تتفاوت التقديرات لأعدادهم بين 25 ألفاً وأربعين ألف قتيل، هو شعور السنة في المنطقة أنهم غير مهددين، وأن موقع الضحية لا يناسبهم، وأن مجزرة بهذا الحجم لا تُغير شيئاً في موقعهم السياسي. ما جرى كان شيئاً من نوع القابلية لابتذال الضحية في سياق سياسي. أي حين لا تُهدد الضحية الموقع السياسي، أو حين يكون الاعتراف بها كضحية اعترافاً وتبنياً لموقع الضحية. الشيعة اليوم في هذا الموقع تماماً. فربما كانوا أحد أبرز ضحايا «داعش» في شمال العراق ووسطه وعلى أطراف جنوبه (الفرات الأوسط)، لكن كونهم ضحايا لم يعد ينسجم مع حقيقة «النصر» الذي يبنون له قصوراً في العراقولبنان وقبل ذلك في إيران. الشيعة، كأفراد، هلعون من كونهم مستهدفين، لكن التكتم على الهلع جزء من أدائهم السياسي. فلا مكان للهلع في غمرة بناء السلطة ولا اعتراف بخسارة. حزب الله يتكتم على عدد قتلاه في سورية. هذا جزء من الصمت عن الخسائر. «جبهة النصرة» نفذت اعتداء على الأرض اللبنانية وقتلت لبنانيين في موقع لحزب الله في بلدة بريتال. لم يُصدر الحزب بياناً يشرح فيه ما جرى! فهل يَصح أن يُهاجَم الحزب؟ هل يجرؤ أحد على فعل ذلك؟ الاعتراف بهذا الأمر اعتراف بأن الحزب ضحية، وهذا أمر أقلع عنه التشيع الجديد. في العراق تركزت الفجيعة في البداية على استهداف «داعش» المسيحيين في الموصل، علماً أن الاعتداءات طاولت أملاكهم وأرزاقهم ووجودهم ولم تطل أرواحهم. ثم انتقلت الفجيعة إلى الإيزيديين الذين سُبيت نساؤهم وهُجرت جماعاتهم. لكن ثمة من دافع عنهم (حزب العمال الكردستاني)، وثمة من أدين لأنه خذلهم (البيشمركة الكردية)، ورفع نواب إيزيديون أصواتهم في البرلمان العراقي، وترددت أصداء هذه الأصوات في العالم كله. الشيعة وأحزابهم ونوابهم اختاروا الصمت حول ضحاياهم في شمال العراق وهم بالآلاف. الألف قتيل في سجن بادوش كشفت عنهم الصحافة الأجنبية وغير العراقية، وسكان تلعفر طُردوا من مدينتهم، ولم تستقبلهم المظلومية الشيعية، وأضيفت تركمانيتهم إلى الأسباب الكثيرة لتجاهل مأساتهم. فهم من جهة شيعة، وموقع الضحية لا يناسب التشيع الجديد، وهم تركمان من جهة أخرى، وهذا يُضعف علاقتهم بالجماعة الأوسع. أما بالنسبة للجيش العراقي الذي خذل الضحايا وهرب قادته، وهو شيعي في غالبيته، فوجد بين الأحزاب الشيعية من يُبرر له تهاونه في الموصل، والمحاسبة التي طاولت ضباطاً في الموصل لم تحصل لأن رأياً عاماً استنفر منحازاً للضحية، إنما لأن الظافر لا يتحمل وقع الهزيمة. وتقلب الجماعات الأهلية والطائفية في الإقليم بين موقعي الجاني والضحية، خلّف مآسي موازية للمأساة الأصلية التي بنيت الظلامة عليها. فالنكران الذي مارسه «الوجدان السني» بحق ضحايا مجزرة حماة الأولى ولّد مأساة موازية للمأساة التي ارتكبها البعث في حينه، تتمثل في أن ضحية لا يحق لها أن تكون ضحية. ففي حينه لم يُقتل أحد في حماة. الجميع تواطأ على ذلك، والجميع قال إن ما جرى كان مطاردة معتدين على النظام. واليوم أيضاً لا تجد الضحية الشيعية في الموصل من يعترف بها، ومن يجعلها مأساته العامة. لا تليق مأساة بجماعة «منتصرة» ولا تليق بشوكة السلطة الظافرة. وفي هذا السياق لا بد من رصد التماهي القاتل الذي تُمارسه الضحية مع جلادها. فالقابلية للاستئصال التي أبدتها «داعش» في أكثر من مكان في العراق وسورية تغذت من دون شك على المحاولات الاستئصالية التي مورست بحق مجموعات من السكان لا تخلو «داعش» من تمثيل لهم. وقد جرى بهذا المعنى ابتذال للضحية، وعملية تحويل تراجيدية لها، من موقعها كضحية إلى موقع من كانت بين يديه. وفي غمرة هذا التحول، يسقط آلاف القتلى الذين يُضرب طوق من الصمت السياسي والمذهبي حولهم. هم قتلى فقط، من دون أن يتمكن غير أهلهم من البكاء عليهم.