الحياة - دولي «الجدل الدائر حول الاكتتاب في «البنك الأهلي» السعودي، هو نقاشٌ حول مسألة فقهية بحتة / الربا، (غير المختلَف في حكمها ولكن في إنزالها على الواقعة) أخذ منحىً سياسياً وحزبياً مؤدلجاً أكثر مما هو شرعي. ولا شك أن كتابات استفزازية معينة هي الفتيل الذي أشعل هذا النقاش المتأزم. لست أعمم هذا التوجه على كل المناقشين للمسألة، ففيهم الكثير من الباحثين عن الصواب، لكن وجود هؤلاء الصادقين يكاد يُلوَّث براغبي «تويتر» وتحزيب النقاش من متطرفي الطرفين. لا أتحدث عن الحكم الشرعي بل عن طريقة الوصول إليه». كان هذا تعليقي في موقع «تويتر» على الاحتراب والتأزم الذي غشي المجتمع السعودي طوال الأيام الماضية، وما زالت أعراضه باقية، حول طرح أسهم أحد أضخم البنوك السعودية للاكتتاب الشعبي العام. فسّر البعض تعليقي هذا بأنه ميل لتوجّه أيديولوجي دون آخر، فيما رآه آخرون انحيازاً لبنكٍ دون آخر! أما تفسيري لتعليقي فهو أنه انحياز لطريقة في التعبير عن الرأي دون أخرى، ولذا فقد ختمت تعليقي ذاك بعبارة: «يجب أن ندرك أن السِّلم الأهلي أثمن من البنك الأهلي». ولم أكن أقصد سوى التأكيد على خطر انقسام المجتمع وتصنيفه وأدلجته تحت ذريعة كل نقاش، سواء كان دينياً واجتماعياً كما هو دوماً، أو سياسياً واقتصادياً كما هو حاصل الآن، أو فنياً ورياضياً كما قد يحصل لاحقاً! النقاش والتشاركية في اتخاذ القرار هما مظهر اجتماعي متحضّر، لكن هذا يصدق حين يكون النقاش ملتزماً بضوابطه المتحضّرة أيضاً. في ما عدا الالتزام بذلك سيصبح الإنسان الفرد محتاراً في الاختيار بين ديكتاتورية الفرد أو ديكتاتورية المجتمع! من بين ما توارثه المجتمع من أدبيات «الصحوة» المهيمنة حينذاك، مقولة: «لحوم العلماء مسمومة»، حتى ظن البعض أنها حديث شريف وليست مقولة للمحدث ابن عساكر فقط! استُخدمت هذه المقولة الشائعة آنذاك لترهيب من يجرؤ على نقد أحد العلماء أو حتى الدعاة البسطاء أحياناً، وتجاوز توظيفها هدف قائلها من حيث توقير العلماء واحترامهم وليس تقديسهم أو اعتقاد عصمتهم. لكن تحولات في المفاهيم الاجتماعية على مستوى العالم الآن لم تحفظ لأحدٍ هيبة ووقاراً، بل بات من المغري للجيل الجديد كسر هيبة السلطات الأبوية في المجتمع: الأب، الحاكم، العالِم (رجل الدين)، المعلم. (راجع كتابي: «مكانة السلطات الأبوية في عصر العولمة»). في عواصف الربيع العربي الذي تحوّل خريفاً، أصبحت هيبة الحاكم حلبة سباق بين تيارين: أحدهما يصنع بطولاته بالنيل منها بمبرر أو من دون مبرر، وتيار آخر يتمنى استرجاع ابن عساكر لينحت عبارة تحمي الحكام كما حمت العلماء. لكن الربيع الاقتصادي، الذي يقال بأنه سيصبح خريفاً أيضاً، أجهز على هيبة العلماء التي كانت تترنح منذ سنوات، فحوّل لحومهم من مسمومة إلى مهضومة ولذيذة، خصوصاً لأولئك الذين يبحثون عن منافع شخصية كالجماهيرية وجذب الأنظار. وكأننا ملزمون بالاختيار بين نقيضي: مسمومة أو شهية! خرج النقاش حول الاكتتاب البنكي عن المسار الشرعي إلى مسارات غير مشروعة من التشكيك في النوايا والذمم والتديّن والمواطنة، لتتحول النقاشات حول أي شأن مجتمعي إلى مظلة للتصنيف والتجزيء .. فأيّ مظلة مشؤومة هذه؟! * كاتب سعودي Twitter@ziadaldrees