الاقتصادية السعودية يعد الفيلسوف جان جاك روسو (1778/1712)، من فلاسفة الأنوار، لكن بشكل خاص جدا لأنه بقدر ما كان يسير مع الركب العام وأفق حقبة القرن الثامن عشر، ويعبر عن العقل كما عبر أقرانه أمثال: "ديدرو" صاحب الموسوعة الشهيرة، وفولتير ذلك الأديب الفيلسوف صاحب السخرية اللاذعة ومونتسكيو صاحب كتاب "روح القوانين" ومروج فكرة ضرورة فصل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية. وغيرهم من المفكرين، فإنه كان صرخة انتقاد مبكرة لخطورة التقدم على القيم الإنسانية، كما أنه كان من دعاة فكرة صلاح الفرد وفساد المجتمع، فالفرد يولد بفطرة طيبة، نقية وطاهرة، لكن بيد المجتمع إفسادها أو حمايتها، فالشر الذي يحدثه الإنسان ليس أصيلا فيه، بل يكتسبه. وهو ما تؤكده عبارته المشهورة التي استهل بها كتابه إميل أو التربية: "كل شيء يخرج من يد الخالق صالحا، وما إن تلمسه يد الإنسان يصيبه الاضمحلال". لقد كان جان جاك روسو رجل التناقضات بامتياز فهو كان عقلانيا حتى النخاع خاصة في نظريته السياسية حول التعاقد الاجتماعي، لكنه كان رومانسيا أيضا وكيف لا وهو من مؤسسي الأدب الرومانسي بروايته "هلويز الجديدة"، فهو كان شديد التأمل وهائما يجول في الأماكن ومحبا للخلوة، بل قضى طفولة قاسية لأنه فقد أمه مبكرا وتركه أبوه وحيدا بعدما ضرب أحد الأعيان وفر هربا من السجن، فأصبح روسو متشردا وهو ما عمق أحاسيسه وجعله يسبر أغوارها ويدقق في تفاصيلها التي خلدتها سيرته الذاتية الفاضحة لكل ثنايا حياته بما فيها الأشد حميمية وهي بعنوان "الاعترافات". ولعل ما يؤكد تأرجح الرجل ما بين العقل والعاطفة وبطريقة مرتبكة هو تناقضات سلوكياته، فنجده مثلا يقيم علاقة غير سوية مع خادمة الفندق الذي كان يقيم فيه، لتنجب له أولادا، سيضعهم في دار الملاجئ غير عابئ بالمسؤولية، ثم ليفاجئنا بكتابه "إميل أو التربية" وهو كتاب يلقبه الأديب الألماني "جوته" بإنجيل المعلمين، فروسو ضحى بأبنائه ليكتب في التربية وكأنه يكفّر عن ذنبه، فهو إن غامر بأبنائه، يكن قد أسهم في صناعة الملايين من البشر، برسمه الطرق التي يراها ملائمة في تربية الناشئة. إن هذا الرجل المتذبذب بين المتناقضات، يجعل منه المؤرخون المحرك الأول للثورة الفرنسية سنة 1789 م ويقال إن كتابه "في التعاقد الاجتماعي" قد حمله الثوار ملوحين به، وهذا يعني أن الكتاب يحمل أفكارا ألهمتهم وعبرت عن همومهم وآمالهم. وهو ما سنسعى إلى الوقوف عنده فيما تبقى من المقال باحثين عن جدة وأصالة روسو في الفكر السياسي. العدالة والفرد ======== مع روسو نصل إلى نقطة مفصلية في تاريخ الفكر السياسي فصدور كتابه "في العقد الاجتماعي" كان إعلانا عن ميلاد تصور جديد للسيادة وتغير واضح لدلالة الشعب، ومعه سيتم القطع مع الأرسطية وترسباتها حيث نفى أن يكون المدني والاجتماعي أمرا طبيعيا، معمقا بذلك فكرة توماس هوبز القائلة باصطناعية المجتمع البشري، لكن هذه المرة لمصلحة الإرادة العامة للشعب فروسو دافع عن السواد الأعظم وعن الإحساس المشترك، دون إهدار حق الفرد فهو في نظريته كما سنرى حافظ على استقلالية الفرد وكان يدعو إلى ضرب من الديمقراطية المباشرة. إن كتاب روسو المذكور قد كلفه 20 سنة وهو في كليته محاولة للجواب عن السؤال الرئيسي التالي: كيف يمكن أن يقام الحق على شيء ثابت؟ وهل من حل لضمان حق قار؟ للجواب سنقسم الحق كما أنجز ذلك روسو إلى نوعين وهما: أ - حق القوة ------------ يرى روسو أن الحق القائم على أساس الفروقات الفردية الطبيعية أي على أساس القوة (عضلات، مال، منصب ...) هو حق غير ثابت ولا يمكن أن يكون قارا، لذلك فهو أساس غير صالح للتنظيم الاجتماعي، فحق القوة يكون دائما في خدمة القوي، فالقوة تقرر حقوقا للأقوياء، وواجبات على الضعفاء، وإذا ما جاء الأقوى فإنه يزيح من هو أقل قوة منه ويقرر حقوقا جديدة. فلا قيمة إذن لهذا الحق، ما دام أنه يزول بانقطاع القوة. فمثلا إذا كنت أحصل على حقوقي بالارتكان إلى ما لدي من مال، فقد أصبح مفلسا وهو ما يعني تلاشي الحق مباشرة، وإذا ما كنت صحيح البنيان وقوي العضلات وأستند إليها لتحقيق مطالبي فقد أصاب بمرض مزمن، فيتبعه مباشرة اضمحلال للحق وهكذا من الأمثلة التي تثبت كون أن القوة لا تصنع الحق الثابت أبدا، فهو حق ظرفي ومؤقت ويؤول إلى زوال. إذن لم يتبق كحل بحسب روسو إلا التنازل عن منطق القوة المتغير نحو منطق الاتفاق والتفاوض فكيف ذلك؟ ب - حق التعاقد الاجتماعي --------------------------- يرى جان جاك روسو أنه للحصول على حق ثابت و قار وجب تجاوز منطق القوة نحو منطق التعاقد الاجتماعي وذلك بأن يفكر الشعب في إيجاد جسد سياسي موحد، أو بعبارة أخرى صناعة شركة اجتماع مدني تدافع عن الشركاء وتحمي بجميع ما لها من القوة الجماعية شخص كل مشترك وتضمن له حقوقه الثابتة وهو ما يجعل السياسة منظورا لها بمنطق المقاولة أي بمنطق الربح والخسارة. ومن ضمن شروط هذا التعاقد الاجتماعي نجد: ------------------------------------------- 1 - أن يبيع كل مشترك جميع قوته (عضلات، مال، نفوذ ...) إلى الشركة بأكملها بيعا شاملا وكاملا ودون تحفظ، فلا أحد تبقى له السيادة. وكل السيادة تصبح بحوزة الإرادة العامة وفق قوانين يتفق عليها الكل، وهو ما أكده روسو في عبارة جامعة وهي أن: "كل أحد، إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد ". 2 - إن الإساءة إلى مواطن باعتباره شريكا في الشركة هو إساءة إلى الدولة ككل. 3 عندما ترغم على طاعة الإرادة العامة فإنك ترغم على أن تكون حرا، فالقانون، أنت من فرضته على نفسك. إذن أنت تطيع اختيارك والاختيار حرية، ففي التعاقد الاجتماعي أنت مشرع للقانون وتنفيذك له هو قمة الحرية وإذا أخللت به يجب أن تتحمل المسؤولية . نخلص إلى أن روسو قد أسهم بنظريته في عقلنة وترشيد العمل السياسي، فأصبح التدبير العام يتم بمعزل عن الأشخاص، نحو التجريد الجماعي وقوة الإرادة العامة والمتعالية، بكلمة واحدة، لا أحد أصبح مع روسو سيدا، بل السيادة للقانون المفروض من طرف الكل. وهكذا ضربت عصافير بحجرة واحدة، حيث سيتمكن الجميع من ضمان كرامتهم وعزتهم ومن تم حقهم، بشكل لا تمايز فيه أو تباين، فيكون بذلك الشركاء، قد عدلوا ما وضعته الطبيعة غير عادل. وسيضمن المرء ثبات الحق مما يخفف من هواجس المستقبل ومخاوفه. إضافة إلى أن المرء سيطيع نفسه ويحقق حريته التي يرى روسو أن التخلي عنها هو تخل عن صفته كإنسان، فهو من سيختار نوع الميثاق الممارس عليه وينصاع لقرار أسهم في صنعه، وبهذا يكون روسو قد حل معضلة عويصة وهي أنه دمج حرية المرء بإكراه القانون في توليفة متناغمة، لدرجة أنه جعل سلطة الإرادة العامة بمثابة إكراه حر. باختصار نظرية روسو جعلت الشعب يعنف نفسه بنفسه ومن ثم لن يحس بالجور والظلم، فتتحقق الشرعية ويكون الرضا والقبول والولاء طوعيا، الأمر الذي سيضمن السلم الجماعي وهو ما ننشده للتعبير عن إنسانيتنا. *أستاذ الفلسفة - المغرب