في أي دولة في العالم، من الصعب أن يتم اختيار رئيس يرضى عنه الجميع «تماما». هذا أمر أشبه بالمستحيل. وفي أكثر التقديرات تفاؤلا، قد لا تتجاوز نسبة تأييد رئيس ما 65%. رئيس الأحلام ليس متوفرا بحسب المقاس والطلب، على أرض الواقع. فما يحلم به اليساريون لا يحلم به اليمينيون، والعكس صحيح. لكن إذا توفر الرئيس الذي اتفقت عليه الأكثرية، يكون البرلمان المنتخب أو السلطة التشريعية هي التي تمثل الشعب، وبالتالي تقودها إرادة الشعب الحقيقية. منذ أن بدأت الانتخابات الرئاسية الأولى فى مصر بعد ثورة 25 يناير، ونحن نتابع بشائر الديموقراطية. لكن ثمة تحديات أخرى لا يُستهان بها، فالشيطان يكمن في التفاصيل. وكأني أرى المصريين يتمنون أن يدمجوا مواصفات المرشحين جميعا في رئيس واحد. قرأت مؤخرا خبرا أن فنانة فرنسية تعيش في مصر قامت بمشروع جمعت فيه رغبات المصريين والصورة التي يريدون رؤية مرشحهم عليها، فخرجت بمرشح رئاسي «دمية» أسمته «بكابوظا»، ويتضمن البرنامج الانتخابي للرئيس الدمية تعهدات كثيرة منها: هدم أقسام الشرطة لبناء نقاط شرطة جديدة لكن من الزجاج وليس الطوب، لكي لا يعود عصر التعذيب ويصبح كل شيء شفافا للمواطن. لا ريب أن صلاح الرئيس من فساده يعرف من صلاح بطانته ومستشاريه، فمنهم يُعرف أداؤه. والشعب، أي شعب، ينتظر رئيسا ملما بالمهمة كاملة، رئيسا يوظف حكومته بناء على الكفاءة وليس اعتبارات أخرى، رئيسا يتقصى الحقائق بنفسه، إن استدعى الأمر، وبدون وسيط. رئيسا لديه رؤية واضحة وخطط قابلة للتنفيذ لإصلاح البلاد والنهوض بها. وبالطبع رئيسا يتقبل النقد فيه وفي حكومته، ويسعى للتصحيح ويحارب الفساد. أن تتحدث الأفعال لا الأقوال. أن يعي الرئيس قوة الشباب، وهم غالبية الشعب، فيصنع منهم قادة. ظهرت لنا في القرون المنصرمة رؤية سياسية تقول إن الإنسان أو الفرد «حالة شريرة» ينبغي تجاوزها لصالح المجتمع المدني الكامل، وهذا ما كان يعتقده الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. لكن التاريخ السياسي الحديث أثبت أن «الإنسان خيِّر بطبعه»، كما يرى المفكر السياسي السويسري جان جاك روسو، الذي كان من المساهمين بفلسفته في إرساء دعائم الديمقراطية في عدد من الدول الأوروبية، وذلك انطلاقا من ثلاثة أسس: سيادة الحق والقانون، وسلطة الإرادة العامة، وأن القانون هو ضامن الحرية. أفكار روسو السياسية شبيهة إلى حد ما بأفكار فولتير، الذي ألهم الثورة الفرنسية. وقد سبق روسو الفيلسوف والمفكر السياسي الإنكليزي «جون لوك» في صياغة العقد الاجتماعي بين الشعب والرئيس في القرن السابع عشر، فالمواطنون يختارون الرئيس ويتنازلون له عن بعض حقوقهم مقابل أن يحفظ لهم كل الحقوق، فإذا ما بدر منه إخلال بشروط هذا العقد، لهم الحق حينئذ في سحب الثقة منه وتغييره. بدأت ملامح «العقد الاجتماعي» أو الدستور، في الفكر السياسي الغربي مبكرا في أوروبا، واتخذ صيغا عدة تبلورت وبلغت أوجها على يد روسو، وهي الصيغة التي نص فيها على أن الأفراد يتنازلون لبعضهم البعض عن قدر من حرياتهم في سبيل تشكيل المجتمع السياسي الذي يكفل لهم جميعا الحفاظ على كل الحريات، وذلك في ظل أي حكومة يختارونها: «إن من يهب نفسه للجميع لايهب نفسه لأحد، فقد تنازلت لي عن بعض حريتك وتنازلت أنا لك عن نظيرها فكأن أحدا لم يتنازل عن شيء». إنها فكرة أقرب للرومانسية منها إلى الواقع الفظ. العقد الاجتماعي هو نقطة الانطلاق لأي دولة قيد البناء أو إعادة البناء، إنه يمثل الصيغة التي يرتضيها الشعب من هذا العقد لبناء مجتمع مدني ديمقراطي، يتمتع فيه الناس بكافة حقوقهم، ويتيح لهم الاستقرار والكرامة والعدل الاجتماعي. إذن، فالحكومة في هذه الحالة هي السلطة التنفيذية التي تنفذ إملاءات السلطة التشريعية الممثلة للشعب بكل طوائفه، وهي التي تراقب أداء الحكومة، وكلا السلطتين تمارسان عملهما بتفويض من الشعب وتحت رقابة الشعب. في المجتمع المدني الديمقراطي، لا يوجد رئيس لايمكن نقده أو تقييمه كما لو أنه هو البلد والبلد هو الرئيس، فالعقد أو الدستور هو الحاكم الفعلي بين الرئيس وبين الشعب، بين بكابوظا المثالي وبين المواطنين الأخيار، بعيدا عن صناعة الاستبداد. وليس من مثال فاحش في هذه الصناعة القديمة أمثل من شعر ابن هانئ الأندلسي في الخليفة الفاطمي المعز لدين الله: ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ فاحكم فأنت الواحد القهارُ وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصارُ