العربي الجديد اللندنية قال القاتل: "ذهبتُ في طلب لوركا، في منتصف ليلة التاسع عشر من آب (أغسطس). انهض... هذا هو الموعد. قال: متى شئت أنا جاهز. نظرت إلى ساعتي: على مهلك. معنا وقت. قال لوركا: أحب ألا يحدث ذلك في المقبرة، فالمقابر ليست ليموت الناس فيها. إنها، فقط، للصمت والأزهار والغيوم. ولا أحب الموت على مرأى من القمر. وحين وصلنا، ساده فرح غامر فهمت معناه: لا يوجد قمر". ويمضي القاتل في سرد تفاصيل الدقائق الأخيرة لمهمته الأشهر في حياته، كما يبدو، إلى أن تحين اللحظة الحاسمة في حياة القصيدة، فيستأنف الحكاية ببرود القتلة المحترفين: "وأصدرت أمري: نار. ولما اقتربت منه، رأيت وجهه معفراً بالدم والتراب الأحمر. كانت عيناه جاحظتين. قال بصوت خافت: أنا ما زلتُ حيّاً. حشوت مسدسي، وصوّبته إلى الصدغ. انطلقت رصاصة، ونفذت من البطن. ودفناه عند جذع شجرة زيتون". كان فتى غرناطة المدلل، فيدريكو لوركا، قد رأى في ما يراه الشاعر أنه سيموت، وأن جثته ستختفي، وأنهم سيبحثون عنها بين المقاهي والكنائس والمدافن، وأنهم في خضم البحث سيسرقون ثلاث جثث لآخرين، وينتزعون منها أسنانها الذهبية.. لكنهم لن يجدوه أبداً. وهذا ما حدث فعلاً، فقد اختفت جثة لوركا، منذ تلك الليلة غير المقمرة، لكنه ما زال حياً، كما أكد في آخر عبارة قالها، قبل أن تنطلق صوبه الرصاصة القاتلة، ذلك أن الشاعر لا يموت. كتب الروائي الإسباني، جوزيه لويس دي فيلالونغا، تفاصيل كثيرة عن تلك الليلة الحزينة من عمر غرناطة، في روايته "هيجان" التي صدرت بترجمة عربية قبل أكثر من عشر سنين، لكن شهادة قاتل لوركا كانت أهم ما ورد في تلك الرواية الوثائقية التي درس وفحص مئات الوثائق والقصاصات الصحافية والكتب، كما قابل عشرات ممن لهم علاقة بالأمر، من بعيد أو قريب، قبل أن يكتبها كوثيقة روائية ساحرة. والشهادة، كما أوردها فيلالونغا، تتجاوز قيمتها التاريخية، لأن تكون قيمة إبداعية، فلا يليق بشهادة عن موت الشاعر القتيل، إلا أن تكون قصيدة بحد ذاتها. كانت غرناطة تعيش إرهاصات الحرب الأهلية الإسبانية في عام 1936، ولم تكن قد مضت إلا أيام قليلة على نجاح الجنرال فرانكو في انقلابه العسكري على الديمقراطية، عندما صدرت الأوامر، وفقاً لأشهر الأقوال، بالقبض على لوركا في منزل أحد أصدقائه الذي سلمه للقتلة، وهو لا يعلم أنهم سيقتلونه، فلم يكن لوركا متهماً بأي تهمة، ولذلك، صدق هو وصديقه الرجال الذين جاءوا للقبض عليهم، عندما أخبروهما أن الأمر لا يتعدى القليل من الوقت الذي يحتاج إليه تحقيق روتيني، في ظل ظروف الانقلاب الجديد. لم يصدق الشاعر، ولا صديقه، وكان شاعراً أيضاً، أن القصيدة ستكون تهمته الوحيدة، لكنها كانت بالفعل. كان لوركا أشهر من أن يخبئ مناوأته الانقلاب العسكري، وانحيازه للديمقراطية والنظام الجمهوري في تلك الأيام. لكنه لم يكن سياسياً محترفاً، بل شاعراً اجتهد في الركض وراء المعاني الشاردة، والتغني بأطلال العرب البائدة في غرناطة، إلى درجةٍ أوحت لبعض دارسي تاريخه، ومتتبعي سيرته الذاتية، أنه ربما ينحدر من أصول عربية، خصوصاً أن قصيدته، كما قال عنها بعض نقاد إسبانيا، عربية النزعة، أكثر من كونها مجرد أندلسية. لكن الحزن العربي الساكن في عينيه الواسعتين، والذي تبدد في ما ترك وراءه من قصيد مفعم بالشجن لم يكن ليمنعه من الرقص في حلبات الشعر، كغجري لاه. "أنا ما زلت حيا".. عبارة لوركا الخالدة ما زال صداها يتردد بين جنبات التاريخ ومفردات كل قصيدة، كعقيدة وجود للشعراء في كل زمان ومكان، باعتبارهم الضمير الأجمل في مواجهة الطغيان. فالطغيان لا يجيد سوى القتل في الليالي التي يغيب فيها القمر دفاعاً عن النفس والبقاء، لكنه، في النهاية، لن يبقى، حتى وإن نجح في القتل .. أما الشاعر فيجيد كل شيء، لأنه يجيد القصيدة!