يفتح الشاعر عارف حمزة قوساً واسعاً ليرصد المشهد السوري المأساوي وانعكاس الاقتتال الداخلي على الفئات الأكثر هشاشة وضعفاً في المجتمع، في ديوانه «لا أريد لأحد أن ينقذني»، الصادر عن دار الغاوون للنشر والتوزيع. وبداية من العنوان، الدال على رغبة الشاعر في استبعاد البعد الذاتي في المأساة، ليسلط الضوء على مجتمع يتم انتهاكه وتدميره، على يد عصابات سلطوية مستبدة، متمركزة حول مصالحها، وليذهب الجميع بعد ذلك إلى الجحيم. يرصد آلام ضحايا الحرب، المرأة، الطفل، الطبيعة، الطيور، الأشياء، الذات الجريحة، التي تكاد تضيء من فرط الألم، لتكشف عمق المأساة عن روح شفافة نقية تلتقط ما هو جوهري في المشهد دون السقوط في الترهل، أو الثرثرة الفارغة، أو الرومانسية الإنشائية الفاقدة للحياة والمعنى. عارف حمزة يمتح من جحيم الحرب والرصاص والدم في لغة رائقة شفافة، وإيقاع هادئ، وموسيقى ناعمة، دون أن يقف كثيراً أمام ملامح القتلة ذي القلوب الميتة، بل يّمر في عجالة ليستغرق في التعبير عن مشاعر وأفكار وأحلام أبناء الفئة المهمشة والضائعين، والمهاجرين، اللاجئين، والفنانين الذي يتم قتلهم، أو سحق إرادتهم، بحيث يدخلون القصر منكسي الرؤوس، وعندما يمر على صورة قاتل ينظر إلى ملامحه دون تصديق، مذهول أمام هول التوحش: وبعد أن عادوا من ذبح أطفالنا فليحضنوا أطفالهم فليفرح القتلة في راحتهم أرواح أطفالنا أو يرصد مشاعر الفئات المهمشة في السلطة مثل الجندي المسحوق تحت وطأة عيون الطفل، هذا الطفل ضحية الوحشية والطغيان، المفتوحة العينين على هول الواقع الكابوسي. وكما رثى أنطونيو ماشادو الأطفال ومأساتهم أثناء الحرب الأهلية، في قصيدة «موت الطفل الجريح»، الربيع، والأشجار، أو لوركا في قصيدة «الطفلِ الميت»: كلَ مساءٍ في غرناطة يموتُ طفلٌ كلَ مساء. كل مساءٍ يتربعُ الماءُ جالساً كي يتحدثَ معَ أصحابِه. الميت يلبس أجنحة تملأها الطحالب. والريحُ الصافية والممطرة كانتا طاوسينِ حلقا بين الأبراج يرثي عارف حمزة الأطفال في الديوان على مدار كثير من القصائد، ليلقي الضوء على البراءة المغتالة، عن التوحش والقهر والفزع: تحت هذا النصف من القمر الضعيف حملنا أولادنا إلى الأسِرَّة بينما حملهم الآخرون إلى القبور!! «قصيدة، نصف قمر» أو في قصائد صرخات كبيرة، طفل وحيد، يدك بلا بصمات أو «عار»، ومنها: ليس الحزن ما كانت تشعر به الناس وهي تجمع عيون الأطفال من بين الأعشاب وتتناثر في معظم قصائد الديوان مشاهد لكوابيس أطفال وبكاء وجثث ويتامى ونظرات حائرة، إنه جنون العنف وقهر السلطة. أما المرأة، وتمثيلاتها: الأم، الجدة، الزوجة، والحبيبة، فتحتل القلب من المشهد، لأن وقع المأساة عليها مضاعف، وتهميشها مزدوج، فهي مهمشة بالهيمنة الذكورية، كما أنها تأخذ كموضوع للرغبة والسلطة لذلك العنف الجنسي والبدني على المرأة السورية فاق كل حدود، من اغتصاب، إلى فقد الابن والزوج، الحبيب، الأخ…: تقولين بأنك تسبحين لله طوال الليل طوال عتمة الليل وعندما أتصنع النوم أسمع ترجينه كي يحفظ أخاك الذي ذهب إلى الحرب كم مرة سأقول لك إنه مات؟ كم مرة؟ «من قصيدة «كم مرة…»» أو في قصيدة شامة بين العينين، هذه القصيدة التي تعبر عن خسة القاتل وتوحشه الذي لا يكتفي بالقتل ولكنه يمارس ساديته في تشويه ملامح الضحايا: وقد دفنا ولدك الوحيد ولدك الوحيد ليس وصفك الشديد الوضوح ما أخرنا كنا نريد أن نبحث عن الشامة الصغيرة كما أوصيتنا بين العينين أن نقبلها ونلثمها كما أوصيتنا وقضينا هذا الوقت الطويل بسبب البحث عن العينين في قصائد الديوان يقوم الشاعر عارف بأنسنة الأشياء من خلال ذاكرة ذكية وخيال خصب في بناء مشهد مؤثر يلقي فيه الضوء على جنون القتل وجنون القاتل الذي لم يترك شيئا، إلا واستباحه وجعل منه عدواً، يجب استئصاله، الأشجار، المباني، والكتب: أفكر في الكتب أيضا في تلك المناطق المنكوبة من بلدي من يأخذها إلى الحمام من يضع إصبعين في أذنيها كلما بدأ القصف ويتحالف المرض مع السلطة القاهرة في حصار الضحايا الأمراض تقوم بعملها الدقيق بإخلاص شديد لذلك في النهاية تتحول المدينة، لمدينة أشباح، مدينة ينعق فيها الغربان والبوم، خالية من البشر، يلبد فيها المواطن وراء الحوائط والشبابيك، لينتظر قدره، أو هدية مميتة، من دبابة، أو رصاصة، أو صاروخ: كتبنا شعرا حزينا أنا وهذه المدينة المدمرة عن أصدقاء قتلهم أولئك القادمون لا محالة إلينا…. ورغم كل هذا الدمار والبؤس يظل الأمل يرفرف في روح الشاعر من خلال القصائد، لذلك تخلو القصائد، من الحقد، والكراهية، ويبقى السؤال، والتسامح، وظهر جلينا في قصيدته «هدنه» الذي جاء فيها: سنحاول في الهدنة إذا حدثت أن نذهب إلى الثكنات ونحدق طويلاً في الدبابات التي قصفتنا ونرمي لها فتات الخبز ديوان «لا أريد لأحد أن ينقذني» إضافة حقيقية لقصيدة النثر عموما، والقصيدة السياسية خصوصا، الذي استطاع الشاعر بخبراته الطويلة أن يتجنب، مزالق وعيوب القصيدة السياسية، ذات الصوت الجهير، والكلمات المستهلكة والمباشرة، لينتقي ألفاظاً ناعمة هامسة لتعبر عن قضايا وجودية تمس الإنسان عموماً والعربي خصوصاً.