التقرير - السعودية دخل أعرابيّ مسجد المدينة ... ونبينا -صلى الله عليه وسلم- جالس ومعه أصحابه. هكذا بدأت الحكاية. نبينا -صلى الله عليه وسلم- في مجلس الحكم، في مجلس الشورى، في مجلس القضاء، في ندوة شرعية، في أمسية ثقافية، في مناظرة أدبية... ومعه أصحابه، ويدخل عليهم رجل من "عامة" الناس. هكذا بدون حاجب. بدون تفتيش. بدون تصريح. بدون "معاريض" تسول. يدخل المسجد لأنه بيت الله، ولأن مجلس نبينا -صلى الله عليه وسلم- لا يشترط مسوغات تمنحك حق القرب منه. اقترب الأعرابي وصلى ركعتين. ثم رفع يديه وقال: "اللهم ارحمني ومحمّدًا، ولا ترحم معنا أحدًا". فقال له نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "لقد تحجّرت واسعًا". صلى ركعتين ثم دعا. بدون مقدمات سأل لنفسه الرحمة وسألها لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، لكنه لم يتوقف، بل سأل أن لا ينالها أحد سواهما. لماذا؟ لا يذكر سببًا، ولا يمكن لإنسان أن يتفهم أن يتمنّى رجل أن لا يسكن الجنة إلا نفسه ومن يختاره مزاجه في تلك اللحظة (تكشف لنا الأيام أنه ليس الوحيد من نوعه). لكن الرجل قال ما قال، وغاب عنه أن رحمة الله قد وسعت كلّ شيء وأن نبيّ الرحمة لا يرضى بذاك التحجير، ولعله نسيَ أن الرحمة الربانية لا تخضع لأمزجة البشر وأهوائهم. وتملأ أذني الرجل كلماتُ نبينا -صلى الله عليه وسلم- "لقد تحجرت واسعًا"، وفيها توصيف دقيق لما قاله، وفيها رفض لتضييق باب الرحمة، وفيها نصحٌ رفيق بما ينبغي عليه فعله. ثلاث كلمات فقط. لحسن حظّ ذاك الرجل أنه لم يكن من ضحايا المواعظ التي تمتد لساعات، ونصفها سجع متكلف، ولا يكاد يفهمها أحد. "ثم ذهب الرجل إلى ناحية المسجد وبال". قام إليه بعض الصحابة مسرعين، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال:" لا تزرموه. دعوه". ما هي حكاية هذا الرجل؟ يدعو بحرمان الناس من رحمة الله، ويبول في المسجد. لا يخرج إلى فناء المسجد، ولا يبتعد ولو قليلًا عن مكان الصلاة. ولو كان لا يعرف حكم التبول في المسجد، أين هو من أبجديات السلوك الإنساني الذي يمنعه من التبول أمام الناس وهم في مجلسهم؟ وفي حضرة نبينا -صلى الله عليه وسلم-؟ يكاد المرء أن يجزم أنه فعلها عمدًا. ويقوم إليه نفر من الناس ليمنعوه، لكن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يمنعهم. لا يمنعه. بل يمنعهم. "لا تزرموه". لا تقطعوا عليه بوله. "لا تزرموه". لا تضروه، ولا تتسببوا في مزيد من الأذى. "لا تزرموه". ويستمر الأمر النبوي لمن عنده: "إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين". يا الله. كأن كلماته –بأبي هو وأمي– تخترق حجب السنوات وتصرخ فينا بعتاب مؤلم. (ميسّرين).. (معسّرين). وبين الكلمتين تسكن عشرات القصص والحكايات. ونظرة إلى واقعنا وما حولنا تكشف لنا زيف كثير من شعاراتنا وتسقط عنا رداء الكذب. "ثم يأمرهم بصب الماء على البول"، وانتهت الحكاية! ** ** ** يا رسول الله.. يأتي مجلسك وأنت الحاكم السيد المطاع، ويتبول على بعد خطوات منك! يأتي مجلسك وأنت سيد الأنبياء، ويفعل فعلته القبيحة! ويكون الحكم هو "لا تزرموه"؟ يتبول الرجل في مسجدك وتخشى عليه الأذى؟ ينجّس ناحية المسجد وتمنع الناس من زجره؟ حين ينطق نبي الرحمة، وتخجل أمامه سنوات القسوة والألم التي عاشها الناس من بعده! يا سيدي.. قد تغيّر حالنا من بعدك كثيرًا. جلس على منبرك من يسوق الناس بالسوط والعصا. وتحدّث باسمك من لو كان حاضرًا مجلسك في ذاك اليوم لنحر الأعرابي على غير قبلة! قد "زرمت" الشعوب، وضُيّق عليها، وتقطعت أنفاسها، وكاد اليأس أن يسكن قلوبها، لولا بقية من أمل باهت يأتي على استحياء يومًا ويغيب أيامًا. يا سيدي.. الفقراء يُطعمون الأغنياء. وبيت المال صار بيت أشباح. الغلاء يخنقنا. والفساد يسخر منا. الكلمة لم تعد حقًّا، وصار من يتكلم فارسًا مهيبًا. النقد -مجرد النقد- صار مقامرة أو مغامرة. يا ويل أمه لو أذنب الرجل. ستناله التهمة ولو تاب، وسيعيره الناس به ولو مات. لا نكاد نجد عالمًا يعيد مقالتك "لا تزرموه"! يا سيدي.. قد "أزرمونا" حتى نطق الحجر! ** ** ** دعاء نبوي: "اللهم من ولي من أمرِ أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه. ومن ولي من أمرِ أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفقْ به".