وأنت تتصفّح سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ستقرأ سيرة عجيبة في مضمونها ومعانيها، ستصل إلى زبدة تلك السيرة النبوية الكريمة، حين تقف على صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم، والتي عليها مدار تلك السيرة النبوية الكريمة، هي صفة "الرحمة" التي أثنى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بها فقال:(وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)، فليس أجمل من خلقه، ولا أروع من تعامله مع الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والغني والفقير، والمسلم والكافر، هو رحمة مهداة للعاصي والمخطئ، والعالم والجاهل، بل أدركت رحمته الحيوانات والدواب. حين تسمع عن اتصافه صلى الله عليه وسلم بصفة الرحمة ستعجب كثيرًا، لكنك حين تقف على وقائع تلك الرحمة ومواقفها في سيرته وتعامله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، لن ينقضي ذلك العجب حين ترى الرحمة تحتوي المخطئ، وتتغاضى عن الجاهل، وتقيل العاثر، وتؤمّن الخائف، وتتجاوز عن الزلة، وتغفر الهفوة. كيف ستتصرف حين ترى شخصًا يحدث أذى في المسجد، لا شك أن الناس سيبادرون إليه يزجرونه وينهرونه نهرًا شديدًا دون تردد، وكم...، وكم... حدث هذا المشهد في المساجد، فكانت ردة الفعل عنيفة، والزجر شديدًا؛ لقاء أخطاء يسيرة، فكيف ستكون ردة الفعل حين يرون رجلاً يبول في المسجد؟ لا شك أنهم سيفعلون كما فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- حيث إنهم بادروا إليه لينهوه، ووثب إليه بعضهم وزجروه "مه مه"، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أدركهم ونهاهم قبل أن يصلوا إليه، وقال: "لا تزرموه"، أي لا تقطعوا عليه بوله، فتركوه حتى انتهى من قضاء حاجته، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والخلاء، إنما هي لقراءة القرآن، أو ذكر الله"، أي رحمة هذه؟ وأي خلق ذلك الخلق العظيم، الذي وصفه الله بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وأي لطف في التوجيه، ورقة في الكلام. الرحمة هي أساس حسن الخلق، وأصل الأدب، ومصدر الرفق، وصف الله بها نفسه، فهو رحمان بالخلق، و(بالمؤمنين رؤوف رحيم)، مَن اتّصف بها أدركته رحمة الله، ف"الراحمون يرحمهم الرحمن"، "ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء"، ومن نزعت من قلبه الرحمة فكأنما ضيّع حظه من رحمة الله تعالى، و"لا يرحم الله مَن لا يرحم الناس"، و"لا يرحم الله إلاّ رحيمًا". الرحمة عطف وحنان بالأطفال، فتقبيلهم ومؤانستهم لا تصدر إلاّ من قلب رحيم، وقد زجر عليه الصلاة والسلام الأعرابي "أو أملك أن كان الله عز وجل نزع من قلبك الرحمة؟"، حين أخبره الأعرابي أنهم لا يقبّلون صبيانهم، بل إن الحزن على فراقهم ومصابهم فيض من الرحمة، لذا لم يملك نفسه صلى الله عليه وسلم أن فاضت عيناه وبكى حين رفع إليه ابن ابنته الصبي ونفسه تقعقع وتضطرب، وروحه تفيض، ولما سئل: يا رسول الله ما هذا "البكاء"؟ قال:"هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". فارحموا ترحموا.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.