مكة أون لاين - السعودية المثقف بوصفه موقفا باتجاه المستقبل، وفاعلا للفكر والإبداع الفني والتعبير يعرَّف بالإحالة على علاقته بالسلطة. فقد كان الموقف التقليدي للمثقف في جهة الشعراء والأدباء - تحديدا- هو الاندراج في دائرة الأتْبَاع لذوي النفوذ والسلطة، دائرة التَّتَرُّس ضد التغيير، وتعميم نموذج الثقافة السائدة، ثقافة التكرار والاجترار والسكون. وكانت هذه الدائرة تمارس ضغطها عليه باستمرار فيفقد حريته وفرديته وموقفه المستقل، ويظل مأسورا إلى الجمود والمحافظة وبلا تمحُّض فني وجمالي؛ لأنه مأسور للقوة والنفوذ في المجتمع ومرتهن بالمعنى الاستحواذي. ولهذا كان الشعراء التقليديون في منطقة الخليج - كما هم في العالم العربي كله - يتعرفون بهذا الموقف الثقافي أكثر من أن يعرَّفوا بشكل شعرهم أو بموضوعاته. وهو موقف بدا قلقا في ضوء التطور الثقافي والاجتماعي ومرشحا للتزاحم مع مفاهيم أخرى لمثقف جديد يأخذ صفة رومانسية أو واقعية أو وجودية، ويمتلك سلطة ثقافية تتبادل مع المجتمع القوة، في طبقتيه الوسطى والفقيرة، أو في الفضاء العربي والإسلامي الزاخر بالمظالم والمآسي والأحداث التي تستجيش التعبير، وفي فضاء الإنسانية بالمطلق فضاء الدلالة على موقف العدالة والحرية والمجابهة للظلم والظلام. هنا أخذ يتبلور مفهوم المثقف بمعنى مبدئي، بحيث أصبحت صفة المثقف مرتبطة بالعقل والضمير والتنوير والحق والعدل والحرية والمساواة، وسائر المعاني التي تمثل أحلاما طوباوية. وبدا واضحا لدى شعراء الحداثة في منطقة الخليج دلالة المثقف بوصفه موقفا لا جدارة له إلا باستقلاله، وهو استقلال يمنحه قدرة على الرؤية والكشف والمعرفة والنفاذ إلى مكامن المعنى والقيمة والجمال، قدرة ترفعه عن العابر والشخصي والنفعي، وتكسبه تلك القوة التي تستشرف الأكمل والأمثل، فتمارس دورا نقديا باتجاه الواقع. ونستطيع أن نلمس هذا المتغير الثقافي - الاجتماعي في منطقة الخليج، في حقل الشعر، منذ المرحلة الرومانسية، فعلى الرغم من طغيان الذاتية والجموح العاطفي لدى الشعراء الذين تجمعهم صفتها، وعلى الرغم من عدم انفكاكهم عن شعر المناسبات واتصال أسبابهم بدواعي المديح والفخر وما إليهما من المقتضيات التقليدية، فإننا نجد في شعرهم مواصفات دالة على الاعتزاز بالفردية وقوة الشعور بها. وهي فردية أطلقت ألسنتهم باتجاه مثالية تتباعد عن خيباتهم في الواقع وهزائمهم ومراراتهم المتصلة فيه، فيغدو الشعر أملا لهم، وينفسح لمعان إنسانية وجمالية، ويتبادلون مع المجتمع التدافع والتجافي الذي كان أحد أميز المعالم الرومانسية في الأدبين العالمي والعربي. ولم يكن غريبا - والأمر كذلك - أن نجد أبرز الأسماء الشعرية الرومانسية في الخليج هي التي أطلقت صرخاتها بضرورة تحديث المجتمع، وتعليم البنات وعملهن، والتعاطف مع الفقراء، وإطلاق أسئلة العدالة والحرية والمساواة، والانفتاح على قضايا الحقوق والمآسي عربيا وعالميا. ولن ننسى هنا - على سبيل المثال لا الحصر - أسماء محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وسعد البواردي في السعودية، وفهد العسكر في الكويت وإبراهيم العريض في البحرين، وعبدالله الطائي في عمان.