ساسة بوست - القاهرة إذا كنا نعتقد أن الوثنية انتهت منذ قرون، فإننا أؤكد على أنها لازالت قائمة كما السابق أو أكثر. غير أن الأصنام تغيرت، لم تعد ذاك التمثال الطيني المصنوع يدوياً والمرفوع عاليا في أشهر الساحات: لقد تطورت، وأصبحت بشرية مرة، ومرات أخرى ذهنية، مرة منصوبة في التاريخ والواقع المادي للأمم، ومرة منصبة في العقول والأذهان. حاولت مرات عديدة الانخراط في الأحداث الثقافية بمدينتي، رغم كونها لا تلفت انتباهي في الغالب وأفضّل بدل ذلك قراءة كتاب على أوتار الكمان أو أنغام الناي، بين أربعة جدران، لأن تلك اللقاءات عموماً لا تجعلني أخرج بأية قيمة مضافة. أتحدث بالخصوص عن تلك التي يتم فيها تقديس المحاضرين وأفكارهم، رغم شهرتهم على المستوى الوطني، وعلماً أن أسماءهم لا تحضر -في الغالب- في تلك الأحداث إلاّ بهدف الإعلان ولفت الأنظار نحوها، إلاّ أنهم ينقلون صوراً سيئة جداً عن المثقف المغربي، ويبعدون عن دائرة الثقافة الجماعية أصحاب الفكر الحر الناقد. في أولى الندوات التي حضرتها قبل أعوام، كان المحاضر شهيراً، وحين أنهى كلمته تدخل أحد الحضور ليقدم رأياً مخالفاً لما أتى به الدكتور، وقبل أن يكمل كلامه تعالت التصفيقات بطريقة تحاول إسكات المتدخل، لم أفهم في البداية السبب، لكن بعد ثوان تدخل واحد من الجمهور صارخاً: "ألا تعرف أمام من تقف الآن؟ هل تفهم اختصاصه أفضل منه؟" استغربت من ردّة الفعل التي دعمها الحضور، ما كان أمام الرجل إلاّ أن توقف وسط الصخب الذي لا يمتّ للثقافة بصلة، عقبت المشهد نظرات ازدراء من الجميع، وتجاهل من المُحاضر الذي طلب المرور للسؤال التالي. هكذا إذن، قلت في نفسي، المُحاضر يوضع في مرتبة القدّيس الذي لا يجب مناقشته، لا يجب قول "لا" أمام كلمته، كما أن اختصاصه له وحده، وهو مصدر المعرفة المطلقة كما كانت الأوثان مصدر الحقيقة المطلقة، ولا أحد يملك الحق في البحث والاستفسار وتقديم آراء مختلفة. منذ تلك الحادثة أصبت ب "فوبيا اللقاءات الثقافية العمومية"، خصوصاً تلك التي تحضرها بعض الأسماء الوازنة، والتي لا أعرف بالضبط سرّ وزنها، لأن ما تأتي به عادي جداً ولا يرقى لمصاف الأفكار التي ينتجها المفكرون العظماء والعلماء. هم أفراد حين وصلوا للشهرة عن طريق شهادات أو نشاطات وكسبوا عاطفة العموم تخلوا عن القراءة والبحث وشعروا بأنهم وصلوا لقمة المعرفة، حتى أن قواعد اللغة والمنطق والأدب بالمعنى الأول والثاني، بدأت تُنسى لهم، هذا إن أتقنوها يوماً. وفي الواقع هذه الظاهرة ليست حكراً على عالم الثقافة، يمكن إيجادها بالخصوص في السياسة، حيث أن ذلك الذي يتم انتخابه بقوة مثلاً لكونه حين يتحدث يخاطب عاطفة الشعب التي يتفاعل بالقلب لا بالعقل، لا يمكن أن نتوقع منه أن يخرج لنا بنتيجة أرقى مما هو الوضع عليه. الخطابات الشعبوية في كلّ المجالات لا توصل أصحابها لنجاحات أبدية، قد تنفع في مدة زمنية يكون فيها الجميع مخدّراً بسلاسة الكلمات وطلاقة اللسان وبساطة المفاهيم، لكن حين يصل الأمر إلى ضرورة تحقيق نتائج ملموسة فيمكن ملاحظة أن تلك الأساليب تثبت فشلها الذريع في الحفاظ على ما وصلت إليه. إننا نصنع كلّ يوم أصناماً جديدة، ونعبدها أكثر مما نعبد الله. غير أن الأصنام مختلفة، وطرق العبادة متغيرة، هناك من يعبد صنم العالِم الذي يضعه في مصافّ الأنبياء حين يخرس صوت من يخالفه، وهناك من يعبد صنم الرجل الذي انتخبه حين يرى تجاوزاته ويواصل التصفيق له. إن أفضل ما يمكن ذكره هنا هو حادثة الرّئيس البوسني "علي عزت بيجوفيتش" الذي وصل إلى صلاة الجمعة متأخراً و قد اعتاد الصلاة في الصفّوف الأمامية، ثم فتح له الناس الطريق إلى أن وصل الصف الأول، مستديراً للمصلين بغضبٍ ثم قال " هكذا تصنعون طواغيتكم".