لا يحبّ حسن داوود تقريب التحليل من الأمزجة، أو خلط الأدب بالسياسة. فهي، وفق كثيرين في عدادهم داوود على الأرجح، إن لم تلوّث الأدب بسّطتْه أو سطّحته. مع هذا، يغريني استخدام معايير ذات منشأ سياسيّ للقول إنّ كتابه «فيزيك» (دار الساقي) خصوصاً، وكتبه على عمومها، ديموقراطيّة لا تقاربها ذرّة من الشعبويّة. وصعبٌ جدّاً أن يكون الكاتب ديموقراطيّاً إلى هذا الحدّ، ينقل الواقع والواقع السفليّ على النحو الذي تفعله الثقافة الشعبيّة، وأن ينحاز في نقله للضعفاء والمهزومين، وألاّ يكون البتّة شعبويّاً، فيستنكف عن إعلان الانحياز على شكل موقف، استنكافه عن تجميل أبطاله، مثلما يمتنع عن إرضاء «ذائقة» الشعب ومطالباتها. فالشاربان والزجّالون ونادي كمال الأجسام واستخدام العاميّة، الأقرب إلى نقل «الشعب» وتمثيله، تنمّ عن حبّ للموضوع يملي أمانة للأصل في الحدود التي توسّعها الكتابة لأمانات كهذه. لقد عثرت رشا الأطرش، وكانت مُحقّة، على شبَه بين كتابات داوود وأفلام ألمودوفار السينمائيّة، وهو ما ينبّه إليه اهتمام السينمائيّ الإسبانيّ بالتلفزيون، واختياره أبطاله من وجوه مألوفة لدى مشاهدي الشاشة الصغيرة، أو استدعاؤهم إلى الشاشة الكبيرة فيما هم يشاهدون تلك الشاشة الصغيرة. وهو ما يتيح لنا القول إنّ أفلامه، في اشتمالها على الدعايات التجاريّة وثرثرات البيوت والشوارع وعالم «تلفزيون الواقع»، تأريخ مخبّأ للتلفزيون، أو وثيقة دقيقة عنه. ومن هذا القبيل أنّ ألمودوفار-نا، النائي بنفسه عن «الثقافة الرفيعة»، لا يسعى إلى تزييف «الشعب» عبر إعجاب به يصطنعه ويدّعيه. فهو، بعد كلّ حساب، لا ينوي تقليد ذوي الهوى النضاليّ إذ يستخدمون «الشعب» في مهمّة جليلة كما لا يطالبه بمثلها أصلاً. فالناس، في «فيزيك»، يحضرون بما فيهم من تناقضات البشر ومفارقاتهم، التي يثير بعضها السخرية وبعضها التعاطف، وبما ينطوون عليه من التواءات ومخادعات وخوف، وبما ينمّون عنه من مسافة بين تقاليد غالباً ما تُكتب وتقال بالفصحى، وبالفصاحة «الرفيعة»، وبين سلوك غالباً ما تعبّر عنه العاميّة. هكذا لا نراهم شعباً «مجيداً»، بل نلقاهم «يفزّعون بعضهم بعضاً بالإنكليز»، ويشي واحدهم بالآخر، فيما سخريتهم تطاول الموتى وجثثهم، حيث عبدالراضي الميّت «ما عادش يسوى منوب». وبدورها، ف «ثقافة الشعب» ليست موصوفة بسعة الأفق أو سعة الإدراك. فهي لا تعرف أنّ هناك اعتداءات تتمّ بالأصوات، وأنّ أمراضاً تنجم عن الأصوات التي يبعثها في الحيّ مَن يجرّون «الرولمانات» فجراً أو ليلاً. بل هي «ثقافة» لا تعرف أشياء كثيرة بحيث تكون العادة ال`سريّة، في عرفها، سبب النحول، ويكون صغر الرأس دليلاً لا يخطئ على قلّة العقل. وعلى عكس صورة «الريف النقيّ» حين تُعطف على صورة «الشعب العظيم»، يمكن تلك «الثقافة» أن تكون قاتلة، تتسبّب بالموت والانتحار، على ما في «بئر مريم» مثلاً. ولا يخلو الوصف من تاريخه الذي هو، غالباً، مقاطع من سيرة ذاتيّة. فداوود إذ يتناول «الشعب» يكون، في مرّات كثيرة، يتناول ذاته وقد غادرها وأحالها موضوعاً له، من غير أن يصير مرّةً كارهاً للذات. هكذا كانت العائلة الهابطة من ريفها إلى المدينة تتنافس لدخول الحمّام العربيّ، مهملةً الحمّام الإفرنجيّ، «ربّما [لأنّنا] إثر نزولنا من الضيعة، لم نعرف كيف نستعمله». وكما صُوَر الأبيض والأسود في دقّتها، وفي الحنين الذي تختزنه، يقدّم لنا «فيزيك» مفاتيح معقّدة لفهم التنميط والتبسيط. ذاك أنّ «الخطأ»، إذا كان لا بدّ من أحكام قيمة، يقيم في الصورة لا في المصوّر. ولأنّ الأمور تجري على هذا النحو، يحتاج «تغيير الصورة المنمّطة إلى طاقات وجهود هائلة». فالسودانيّ في السينما المصريّة بوّاب اسمه عثمان، وأهل قرية الكاتب، من دون أن يكونوا ذوي أطماع إمبرياليّة في «الشرق»، يسمّون «أهل القرية الفلانيّة دببة». أبعد من هذا، فإنّ الناس المنمَّطين «قد تعجبهم الصورة التي رُسمت لهم» وقد يعملون وفقها. فنحن، إذاً، حيال «استشراق» محلّيّ، هو جزء تكوينيّ منّا ومن صورتنا، لا حاجة معه إلى مستشرقين أجانب. أليس أولئك الذين يشترون ديلاكروا ونساءه الجزائريّات، أو الذين يستعرضون على طاولات صالوناتهم السَبحات والخناجر، تعبيراً طوعيّاً آخر عن ذلك؟ هنا أيضاً تفعل النزعة الديموقراطيّة فعلها إذ تحرّر الصورة الفعليّة من مزاعم تحريرها، أي افتعالها وتزويرها بما يلائم هوى أيديولوجيّاً ما. لكنْ أيّة قوّة هي التي تتيح لحسن داوود أن يكون ديموقراطيّاً مطلقاً، عديم الغائيّات، وألاّ يكون شعبويّاً بإطلاق، علماً أنّ أرقى الديموقراطيّات يُعجزها التنصّل الكامل من الشعبويّة؟ أزعم أنّ صاحب «فيزيك» يملك سلاحين يجعله اجتماعهما قادراً على بلوغ هدفه هذا: أوّلهما ولاء لمهنة الكتابة يكاد يرقى إلى تماهٍ صوفيّ معها، والثاني مركّب من طاقة بصريّة تُبديه أحياناً كما لو أنّه يكتب بعينيه، ومن مخزون ذاكرة تزمّن كلّ حرف يكتبه، فإن لم تزمّنه لفظته وأخرجته من فضائها. وفي ما أظنّ، ينشأ عن هذا التركيب الأخير، والمتناقض العناصر، بين البصر والتذكّر، ذاك التوتّر الذي يحكم النصّ الداووديّ. فعينا عبدالراضي «الصغيرتان، اللتان يميل لونهما إلى الزرقة، تبدوان، من بين الكحل، كأنّهما تثقبان كلّ شيء تحدّقان فيه»، أمّا هنّ ف «من أجل أن يكنّ جميلات وميّتات من العشق يتخيّلن أنفسهنّ واقفات على الحافّات». وبدورهنّ، فالمغنّيات «كنّا ننتظر أن تفتح إحداهنّ، في برنامج غنائيّ، عينيها على اتّساعهما لكي تثبت، أو لا تثبت، أنّ عينيها ليستا صغيرتين». وترقى البصريّة السينمائيّة أحياناً إلى صورة على صورة، أو كاريكاتور على كاريكاتور، كأنْ تؤدي هزيمة العرب أمام إسرائيل بالرسّام لأن يرسم «رجلاً عربيّاً تدلّى شاربه نازلاً الى الأسفل». وحسن لا يتردّد في أن يحقّب نفسه بصريّاً، حيث كانت صورة العرس «نهاية حقبة» من عمره و «بداية حقبة أخرى»، ما يجيز القول إنّ العنوان الفرعيّ للكتاب «قصص» كان يمكن استبداله ب «لوحات» أو «صور». أمّا الذي لا يحبّ الصور ولا يحتفظ بها، ف «لا يحبّ كلّ تلك الأشياء التي هي مثل الصور، كأنْ مثلاً يسوق سيّارته من بيروت إلى بعلبك من دون أن يدير الراديو ليسمع أغنية على الطريق، و[هو] لم يكن يذهب أبداً إلى السينما، كما أنّه لم يسبق له أن تلقّى رسالة من أحد، أو كتب رسالة لأحد». إنّ الأمر، والحال هذه، يرقى، أو بالأحرى ينحطّ، إلى فقر محض. بيد أنّ الذاكرة القويّة لا تكفّ عن مصادمة العين القويّة، والعكس بالعكس. فالأولى، على عكس الثانية، تحكمنا أكثر ممّا نتحكّم بها، نرضخ لها عاجزين عن تحويلها، وكلّ ما نستطيعه هو أن نحبّها ونعالجها بالحنين تبعاً لتأويلنا إيّاها. فحسّ الزمن الذي نراه طاغياً في «منازل بناية ماتيلد» مثلاً، حيث يستمرّ قياس يومنا على العام 1954 وقياس 1954 على يومنا، يأتينا في صيغ تكاد تكون قوانين ملزمة. ذاك أنّ «لكل زمان نوع شواربه الذي لا يقبل أصحابه غيره»، والبنايات، في الضاحية، «قامت على أنقاض البيوت، و[حلّت] مستودعات الأغذية في مكان الدكاكين». والقوانين تلك من مصاف حتميّ، حيث إنّ مردّ النجاح في تحويل الدكاكين إلى السوبرماركت «عدوى» لا يتأخّر وصولها فحسب، بل إن سرعة انتقالها تجعل «الشيء يتبع سابقه حتى ليكاد يصل قبله». وعند داوود، تملك العلاقة بالزمن ميتافيزيقها حيث تسري القوانين على مَن لا قوانين تسري عليهم. ذاك أنّ «المهابيل الثلاثة» الذين لم يتزوّجوا البنات اللواتي هنّ مثلهم، «يظلّون هكذا بلا زواج لا يكبرون مع العمر، أقصد أنّهم لا يتغيّرون ولا تتغيّر عاداتهم». وفي استنطاق الذاكرة وتزمين المعالم ثمّة أحكام موضوعيّة تُسجّل ويُمتثَل لها، إذ لا حول ولا... فانتشار ساعات المعصم يقلّل الاكتراث بساعة الساحة العامّة وبدقّاتها، فيما الأمكنة لا يمكن «ردّها إلى ما كانت عليه»، والزجّالون اندثروا إذ «الزجل بقي هناك، في ذينك الزمان والمكان، في سنوات الستين، أيّام كانت صورة التلفزيون بالأبيض والأسود، من دون أن يتآكلها ويضعفها تراكم السنوات (...) أمّا في الجريدة فقد اكتهلوا كلّهم في صورهم الأخيرة». لكنّ الحنين، تعريفاً، صلةٌ بزمن يُراد له، في مكان ما، أن يُستعاد، فيما هو لا يُستعاد، وكلّ ما تلتقطه العين القويّة الثاقبة يؤكّد لصاحبها أنّه لا يُستعاد. لقد انتهت دورة الزمن ب «ليزا اليهوديّة» أن تقيم «وحدها في أبو جميل»، وغدت بيروت «أثمن من ساكنيها». أمّا حسن الذي لا يكتم احتجاجه فيقرّر بغضب: «لا ينبغي أن أرى أحداً منهم. إن رأيت عايدة، بنت نبيهة الشيباني، فلن تكون مثلما كانت»، فيما مدام جاديجيان «إن رأيتها فسأراها في الثمانين، لا مثلما نزلت على الدرج امرأة في أربعينيّاتها». فإذا تناول موضوعاً يستكثر عليه الغضب قال على طريقة «أنا كذا يا دنيا» أو ربّما على طريقة «حلّوا عنّي»: «سأبقى بشاربي هذا برغم علمي أنّ طرازه قد انقضى»، وأنّ الشارب هذا «لم يعد للوسامة ولا للغواية»، فهو «ليس إلاّ أثراً باقياً من عادات جيل سابق». ولهذا نظريّته إن صحّ التعبير. فعند داوود (الذي يوشك أن يضيف: للأسف)، «تقلّل الأعوام من قوّة الأحداث إذ تُحلّ الكلام في محلّ الدم». فالناس لا يعود يهمّهم الماضي حين يغدو العالم المحيط بهم جديداً لا تطلب عيونهم سواه: فهم، حيال الوسط التجاريّ مثلاً، «يريدون أن يكون ما يشاهدونه جديداً جدّة كاملة»، بينما الماضي «مقفل على أشيائه في ذاك المكان المقفل»، يكاد لا يهمّ أحداً إلاّ الكاتب وبضعة أركيولوجيّين. أمّا الذين يذهبون في الأمر مذهباً آخر فصنفان: هناك، من جهة، مَن تفاقم الأعوام قوّة أحداثهم وحضورهم، بسبب أتباعهم أو بسبب طقوس ومقدّسات تجعلهم موضوعاً للعبادة والتقديس. هؤلاء يأسرون الحاضر في «تاريخ» يزداد تخييلاً وخرافيّةً، وقد ينجرّ عنهم، وعن تذكّرهم الملتوي، استبداد عظيم. وهناك، من جهة أخرى، الذين يتكامل عندهم العزوفان عن الماضي والحاضر، كحال السيّد أمين الذي «لم يكن يحتاج إلى أن ينزل إلى بيروت ليرى إن كانت المكتبات تعرض كتباً جديدة». ذاك أن الأدب لديه «شيء قديم انتهى مؤلّفوه من تأليفه». وليس أيّ من هذين الصنفين رفاقاً لحسن في رحلته الفريدة والوحيدة إلى ذاك الماضي.