التقرير - السعودية حكاية من التاريخ البعيد: في يوم ما كانت هناك دولة .. جلس الحاكم يوماً وقد بدت على وجهه علامات التفكير العميق ومسحة من همّ ثقيل .. ثم رفع رأسه وقال: "لو عثرت دابة فى العراق لخشيت أن يسألنى الله عنها لما لم تمهد لها الطريق يا عمر!" حكاية من التاريخ غير البعيد: هناك بلد يرفع لافتة مكتوب عليها عبارات التوحيد .. وينخر كثيراً من مؤسساته الفساد ..كل أشكاله وأنواعه وألوانه ونكهاته .. وصار للفساد سلطة نافذة اقتضت من أجل محاربته أن تتشكل "هيئة" وطنية ترتبط مباشرة بملك البلاد (في 2011م)، وجاء في نص قرار تشكيلها: "تشمل مهام الهيئة كافة القطاعات الحكومية،ولا يستثنى من ذلك كائناً من كان،وتسند إليها مهام متابعة تنفيذ الأوامر والتعليمات الخاصة بالشأن العام،ويدخل في اختصاصها متابعة أوجه الفساد الإداري والمالي". واستبشر الشعب! ونشرت "نزاهة" في موقعها الرسمي أن رؤيتها "أن نكون من بين الهيئات المتميزة عالمياً في مجال حماية النزاهة ومكافحة الفساد". وصفق الشعب! ونشرت أن رسالتها "العمل على حماية النزاهة ومكافحة الفساد في الأجهزة المشمولة باختصاصات الهيئة لخلق بيئة عمل في تلك الأجهزة تتسم بالنزاهة والشفافية والصدق والعدالة والمساواة " وانتظر الشعب! والتزم منسوبوالهيئة بقيم متعددة منها: "العمل لتعزيز مبدأ المساءلة لكل شخص مهما كان موقعه،للوصول إلى الحقائق وكشفها دون تهيب،وعدم التفريق في المعاملة وفق المركز الوظيفي أو الاجتماعي، لمكافحة الفساد أينما وجد". ولا زال الشعب ينتظر! حكاية رقم (1) من التاريخ القريب: شاركت "المملكة" في أعمال اجتماع الرابطة الدولية لهيئات مكافحة الفساد،واجتماع الدورة الخامسة لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد في نوفمبر 2013م، وألقى رئيس "نزاهة" كلمة جاء فيها: "سعت المملكة العربية السعودية منذ وقت مبكر،وحتى قبل أن يصبح لمكافحة الفساد اتفاقية دولية إلى مكافحته، من خلال مبادئ الدين الإسلامي،الذي يعد الفساد جريمة بشعة تعاقب عليها الشريعة الإسلامية قبل أن يعاقب عليها القانون". ثم أشار إلى مسألة خطيرة بقوله: "وما زال هناك بشر يستأثرون بحقوق غيرهم،ويستحلونها لأنفسهم في غياب من ضمائرهم،وتغييب لسلطة القوانين،متناسيين أنه سوف يأتي يوم تضرب فيه سيوف الحق والعدل هامات الظلم والفساد"... كلام يكتب بماء الذهب، وواقع يسطر بمداد الدم! حكاية رقم (2) من التاريخ القريب: بعد أسبوعين فقط من الكلمة العظيمة التي ألقاها رئيس"نزاهة" نشرت صحيفة "الرياض" تقريراً عن دراسة ميدانية حول الفساد في المملكة، جاء فيه: واقع الفساد الإداري في المملكة يبلغ 2.2 من 5 التدوير الوظيفي يكاد يكون غير موجود في الأجهزة الحكومية في المملكة. إدارات المراجعات الداخلية لم تفعّل للقيام بعملها بالشكل المطلوب في الأجهزة الحكومية. كثير من الأجهزة الحكومية لم توفر للموظفين وسائل اتصال مباشرة خاصة بالبلاغات عن المخالفات القانونية. توقيت نشر التقرير يمنحك مزيجاً عجيباً من الرغبة في الضحك والبكاء! حكاية من غرب الأرض: نشرت "منظمة الشفافية الدولية" تقريرها السنوي وكان معدل "الفساد" للمملكة السعودية 64/100 (كلما اقترب الرقم من 100 فهو علامة نزاهة وكلما ابتعد فهو علامة فساد). تستطيع أن تطعن في مصداقية تقرير هذه المنظمة الغربية،لكن تذكر أن الرقم الذي ذكره التقرير المنشور في صحيفة الرياض يعكس واقعاً أشد قتامة. باختصار .. لم نحصل على علامة النجاح.! حكايات من هنا: هل نسأل عن سيول المملكة؟ (لم نعد نسأل عن سيول جدة،فقد صار لدينا سيول الرياض،وسيول تبوك،وسيول أخرى نعلمها،وأخرى لا نعلمها.) أو نسأل عن المرضى الذين يموتون عند عتبات المستشفيات؟ أو عن"الأراضي" البيضاء أو الرمادية أو الزرقاء التي اختفت من خارطة البلاد؟ أو عن الذين سكنوا الفنادق (من فئة 5 نجوم)، ثم اختفوا في ثقوب سوداء؟ أو عن ميزانيات بأرقام فلكية تتلاشى بما يشبه فعل الساحر؟ ما حكاية ريم النهاري؟ ومن يذكرنا ب غدير كتوعة؟ من هو "كائن من كان"؟ أليس غريباً أن كل بلوى أساسها الفساد وتصيب الناس ..لا يكون بين ضحاياها ابن لآل فلان أو ابنة لآل فلان؟ سأبتعد عن لغة القانون ولن أستخدم لغة الأرقام .. وسأتحدث بلغة "الدين"لأنها اللغة التي يتشدق بها إعلامنا والتي كانت مطية رئيس "نزاهة"لتمرير دعايته،وسأعيد هنا ما قاله: "سعت المملكة العربية السعودية منذ وقت مبكر،وحتى قبل أن يصبح لمكافحة الفساد اتفاقية دولية إلى مكافحته،من خلال مبادئ الدين الإسلامي،الذي يعد الفساد جريمة بشعة تعاقب عليها الشريعة الإسلامية قبل أن يعاقب عليها القانون" إذن اسمح لي يا سيدي أن أقول لك:"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه،وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد". خاتمة: لم تعد المشكلة في وجود الفساد .. بل في وجود "قانون" يشرّع للفساد ويمنح الفاسد حصانة!