المصري اليوم - السعودية صبيحة أحد أيام العيد، قررت أن أخوض تجربة «الذبح».. تفاهمت مع الأقارب وقررت أن أنحر بيدي أضحيتنا. أحسست ساعتها أني بحاجة لخوض التجربة، ولو على سبيل «الرقاعة الفلسفية»، كي أكتب شيئًا ما بعدها عميقًا وملحميًا عن تجربة إزهاق روح! تلقيت الإرشادات بعناية، وأجريت السكين في الموضع المحدد من الرقبة، انسال الدم، ارتجف جسد الأضحية، زاغت عيناها، إلى أن أسلمت الروح.. ولم يهتز لي طرف، وبدا لي أن تحولًا دراماتيكيًا جرى في شخصيتي أو هكذا تأولت. أخذنا نتعاون في «تشفيتها» ونزع جلدها عنها، فبدا لي جسدًا مسبوكًا ناصع البياض، اللحم ينساب حول العظام في بهاء آسر، والأعضاء تتماسك مع بعضها البعض في رسم غريب، والأحشاء تتصل بالأحشاء في نظام هندسي دقيق، وكل شيء في هذا الجسد الجميل بدا فاتنًا وساحرًا ولافتًا على نحو ما لجمال الصنعة الإلهية في الخلق. تملكني شعور غامر أنني أمتلك كل هذا الجمال الثاوي بين سكين يمناي و«مسن» يساري.. ولم أتذكر تعاطفي الطفولي مع كل «معزة» أو «خروف» ذبحه جدي بعد صلاة العيد، وكنا نبكيه أطفالًا في الصباح، ثم نلتهمه بتراضٍ بالغٍ في الغداء، بعد جوع منهك من طول اللعب يوم العيد! بعد تجربة الذبح فالتشفية، أحسست أن شيئًا ما برق في السماء وأومض في روحي، أحسست أنني توحدت مع روح العالم الكلية، ووصلت لمرحلة النيرفانا فجأة..نقاء بالغ.. رهافة مطلقة.. كأني أسمع دبيب الحشرات في الأرض وسوسنات الكائنات وأزيز الكون.. ففهمت «سر السُبكي»! الانتقال من الجزارة للسينما، عناء نفسي بالغ، يحتاج لجزار هاوٍ مثلي كي يفهمه. ربما في اجتهادي في كتابة نصوص سينمائية، وفي اجتهادي في إجراء عمليات جزارة أنيقة طفيفة ثلاث أو أربع مرات كل عام تقريبًا.. كنت أرى السبكي بين كل مشهد أكتبه، وكل ذبيحة أراقب تناسق خلقتها وجميل بنيانها. في فيلم «حلاوة روح»، كنت أحس السبكي الجزار يحارب السبكي المنتج كي يظهر هو على الشاشة.. كان يستعرض جسد هيفاء وهبي، بنفس الفخر والتيه الذي ينتابني وذبيحتي معلقة مكشوفة أستعرض جمالها في عيني. حين تمارس الجزارة، ولو لمرات طفيفة، ستدرك أن الذبيحة تتحول لمنجزك الشخصي.. أن الجسد يصير ملكك بعدما يتجرد من الروح.. أن كشفه واستكشاف جماله حق أصيل لك، وأن دعوة الآخرين (الأقارب والمارة أمام البيت) لمشاهدة منجزك، هو من قبيل إتمام متعتك الذاتية بمنجزك «الخلاب». ربما بين الجزارة والسينما، تكمن أزمة السبكي وأفلامه.. تيه الجزار الكامن في كل فرد من أفراد العائلة، يغالب صنعة السينما التي يتوارثونها على نحو وبائي مدهش. الوله باستعراض الأجساد/ الذبيحة.. يفوق ما عداه، وذبائح السبكي في السينما والجزارة ما أكثرها! السبكي الذي يطلق على محل جزارته بالدقي «بروتين السبكي» على سبيل الدلع والتخفي والتملص من «الجزارة».. يحاول تدليع «جزارته» الصريحة بهيفاء وغادة عبدالرازق وأخريات، وتسميتها «سينما». لا أعلم هل أدين السبكي في هذا، أم أنني أتفهم الدوافع والخلفيات؟..صح القياس أم لم يصح. لكن وسط طوفان الحديث عن «حلاوة روح»، والذي وياللمفارقة يشير في الاصطلاح الشعبي لرفس الذبيحة أو سلوكها بعد الذبح كمصطلح جزاري بحت، أقف أمام فكرة استغلال طفل جنسيًا وتجاريًا في فيلم كهذا. الفيلم المثير للجدل الذي حاول «سبكنة» الفيلم الشهير «malena»، لم يراع بنظري الأبعاد النفسية والتربوية التي تؤخذ بعين الاعتبار في حالات الاستعانة بالأطفال في الأفلام السينمائية. فعلى شبكة الإنترنت، عشرات المقالات والدراسات التي تتناول أعراض الخلل النفسي التي قد تنتاب الأطفال بسبب انخراطهم في أعمال سينمائية منذ الطفولة، حيث يتحولون لنجوم وأثرياء بغتة، دون أن يخوضوا الرحلة الاعتيادية التي يحتاجها الإنسان عادة لتنشئته. فهم لا يخوضون مثلا تجارب كي ملابسهم أو ترتيب حجراتهم أو اللعب مع أقرانهم، الأمر الذي يؤثر سلبًا عليهم فيما بعد ولا يجعلهم يتصرفون كراشدين. وبمعزل عن الجوانب النفسية المعروفة لشهرة الأطفال في مراحلهم العمرية المبكرة (لأن هذا ليس موضوعنا تحديدًا)، فإن الجانب الأخطر هو الاستغلال الجنسي للأطفال في سياق أحداث درامية، وأثر ذلك فيما بعد على سوء سلوكهم الجنسي. ورغم المحاذير التي تتبناها صناعة السينما العالمية غالبًا في مثل هذه الحالات إلا أن الأمر ظل شائكًا ومثيرًا للجدل، بين الضرورة الإبداعية وبين استغلال الطفل ك«غرض» له وظيفة، دون الأخذ في الاعتبار حقه في عدم تعريضه لظرف نفسي حرج ومعقد. ربما نحن بحاجة لتخيل سلوك الطفل المشارك في الفيلم في مشاهد اشتهاء هيفاء وهبي، بينما يشاهد الفيلم أو يسترجعه بينه وبين نفسه أو تخيل الأحاديث المتوقعة بينه وبين أقرانه حول دوره في الفيلم، وحول البطلة وعلاقته بها في التصوير. لا أحب أن أزايد على والدَي الطفل اللذين قبلا أداءه دورًا تحيطه شبهات نفسية كثيرة متوقعة على طفلهما، فهذا شأنهما.. لكن أحب أن ندعو لوضع قوانين ومحددات لاستخدام أو استغلال الأطفال في الأعمال الدرامية. وإذا كان الظرف المجتمعي العام في انحطاطه لم يعد قادرًا على رد الجزار لسلخانته وتخليص شهوته غير المنضبطة في استعراض ذبائحه، فإن هذا الظرف المنحط سيصبح مسؤولًا فيما بعد عن استغلال الأطفال على هذا النحو البشع، جوار الذبائح المستباحة.. لتكتمل الجريمة.