الوطن الكويتية ان القرض المصرفي حديث بحداثة النظام المصرفي، ولم يرد نص صريح من القرآن أو السنة النبوية بشأنه، ولكن لا يعني هذا خلو الفقه الاسلامي من اسس وقواعد يعتمد عليها في بيان حكم القرض المصرفي، بل ان عبارات الفقهاء واسسهم اكثر تطورا من الفقه المعاصر، وهذا يدل على مكانة الفقهاء المسلمين، وعمق تفكيرهم، وصناعتهم الفقهية، ونركز على الاسس والمبادئ والمعاني التي رسخها الفقهاء دون ان نسجن انفسنا في ظاهر النصوص الفقهية. ان الآراء السابقة في بيان احكام العوض «الفائدة المصرفية» في القرض المصرفي اعتمدت على اسس القرض ومعاييره في الفقه الاسلامي، أفيدخل القرض المصرفي في معنى القرض في الفقه الاسلامي، أم ان طبيعته خاصة؟ وما اثر هذه الخصوصية على العوض؟ ان القرض المصرفي يشمل عدة مصطلحات مصرفية منها القروض، والودائع بأنواعها وقد اتفقت قرارات المجامع الفقهية على حرمة الفوائد المصرفية تطبيقا لاحكام القرض في الفقه الاسلامي على القرض المصرفي، الا ان تحديد طبيعة القرض المصرفي والاسس التي ذكرها فقهاء العصر لا تخلو من مقالة، ونحاول في هذه الفقرة تحديد طبيعة القرض المصرفي اعتمادا على آراء الفقه الاسلامي وعباراته في العصور الاولى، لانها الاساس الذي اعتمد عليه فقهاء العصر في تحديد طبيعة القرض المصرفي، وبيان احكام العوض، أفيعد القرض المصرفي من باب القرض في الفقه الاسلامي وفقا لأحكام فقهاء المذاهب الفقهية السائدة، أم ان له خصوصيته، ومن ثم تطبق عليه معايير غير معايير القرض في الفقه الاسلامي؟ ان تحديد طبيعة القرض المصرفي تستلزم النظر الى اساسين، هما حكم القرض، وحكم الاجل، ونعرض لهما على التوالي. حكم القرض ---------- ان القرض عقد من عقود التبرع، وهو من باب البر والاحسان، فالقرض يقوم على البر والاحسان والمعروف، كما يقوم على واجب المسلم نحو اخيه المسلم من ستر العيوب، وكشف الكربات، والتعاون، وهو في معنى الصدقة، لأنه وسيلة لسد الحاجة، أي الفقر، فلا مجال للحديث عن الربح والخسارة، والقيمة الزمنية للنقود، لأن الانسان قد اخذ عوض هذه الامور من الله – سبحانه وتعالى – واستعاض عن اجر الدنيا بأجر الآخرة. ان قيام القرض على البر والاحسان والتعاون، وسد الحاجات، وتفريج الكرب، وواجبات المسلم نحو المسلم، وانه في معنى الصدقة – مبدأ متفق عليه، فقد دلت عليه نصوص السنة النبوية، واتفق عليه الفقهاء قديما وحديثا، فمن السنة وردت احاديث تدل نصا ومضمونا على المعاني السابقة للقرض فمن ذلك ما رواه ابن مسعود – رضي الله عنه - «ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «ما من مسلم يقرض قرضا مرتين الا كان كصدقتها مرة»، كما اعتبر الفقهاء احاديث تفريج الكرب عن المسلمين، واعانة المسلم لاخيه المسلم، وستر العيوب من ادلة تشريع القرض والدعوة اليه، وهذا يعني ان هذه المعاني اسباب القرض، فيقول ابن قدامة في هذا: «القرض من باب البر، وتفريج الكرب، ومن المعروف، وقضاء لحاجة المسلم، وعون له، فأشبه بصدقة التطوع»، ويقول المرتضى: «... وموقعه اعظم من الصدقة، اذ لا يقترض الا محتاج... وهو مكرمة شرعها الشرع لحاجة المحتاج»، وفي المجموع «القرض قربة مندوب اليه، لما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»، ولقول ابن عمر، وابن عباس – رضي الله عنهما -: «قرض مرتين خير من صدقة»، واما المالكية فقد ذكروا ان حكم القرض ذاته الندب، وقد يعرض له الايجاب، وذلك وفقا للحاجة وشدتها، واقتصرت بعض مصادر الفقه المالكي على ذكر الندب والايجاب، وذكر بعضها الاباحة، المهم ان الحاجة هي التي تحدد حكم القرض، من الندب أو الايجاب، فهو مرتبط بالحاجة ودرجتها، ووافق الاحناف المالكية في حكم الندب، وانه في حكم الصدقة، وانه من باب تفريج الكرب، وستر العيوب، وواجب المسلم، نحو اخيه المسلم، أي واجب الاخوة في الاسلام، ولم يذكروا الايجاب. تؤكد العبارات السابقة اتفاق فقهاء المذاهب (الاحناف – المالكية – الشافعية - الحنابلة – الشيعة) على ان حكم القرض هو الندب، وان اساسه الحاجة، وهذا يجعله في معنى الصدقة، وان اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المبدأ، اما الايجاب فلم يصرح به الا المالكية. لقد لامس فقهاء العصر هذا المعنى للقرض، واسسه، فقد تكررت عبارات تضمين القرض معنى الصدقة وربطه بالحاجة، واغاثة الملهوف، والارفاق، والاحسان، نذكر نماذج من هذه العبارات، «شرع القرض لإغاثة الملهوف، واعانة المضطرين»، «الاصل ان القرض عقد ارفاق»، «القرض في الاسلام قربة الى الله – سبحانه وتعالى، ولا معنى لهذا القرض الا اذا كان من الاغنياء الى الفقراء». اذا كان القرض من باب الصدقة، وقربة لله تعالى، فهو من باب العبادات لا المعاملات، وحكمه يدور بين الندب، والايجاب، وهذا حكم تكليفي، وهو وسيلة لمعالجة الفقر، ويترتب على هذا نتائج، اهمها: ان الندب والايجاب من اقسام الحكم التكليفي، ومحل الحكم التكليفي الفعل والانسان المكلف، ولا خلاف بين علماء الاصول في محل الحكم التكليفي، ورسخ هذا اتفاقهم على قيد «المتعلق بأفعال المكلفين» في تعريف الحكم التكليفي، فالتعريف المعتمد عند الاصوليين في تعريف الحكم التكليفي هو «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء»، ومن انتقد هذا التعريف اتفق مع جمهور الاصوليين في قيد «المتعلق بأفعال المكلفين»، فالقرض من غير المكلف معدوم المحل، ولا يدخل في القرض في الفقه الاسلامي، والا لا معنى لتعريفهم للقرض، ولا المعاني المذكورة للقرض، ولا اسس القرض، ولا حكمه. ان اعتبار القرض عبادة، وحكم الندب، أو الايجاب يخرج القروض المصرفية من باب القرض، وبعبارة اخرى يمكن القول ان القرض المصرفي غير القرض الذي تناوله الفقهاء لانعدام محله، فالقرض المصرفي محله غير المكلف. ان اساس القرض هو سد الحاجة عبادة، أي لله تعالى، وبانعدام هذا الاساس ينعدم موجب القرض، ولا وجود له بلا موجب. ان هذا المعنى لا يمكن تصوره من الشخص المعنوي، أو المال مستقلا عن الانسان، أي ما يعرف في القانون بالشخص الطبيعي. يؤيد هذا الاستخلاص ما ذهب اليه بعض شراح الحديث الى عدم جواز التبرع من المال العام، أو اذا كان المتصرف في المال غير المالك، كالولي على مال القاصر، والقاضي على ما بيده، والقرض تبرع، اذن لا يجوز القرض، لأنه تبرع، ومن عبارات شراح الحديث – مثلا – ما ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم من بيان لحديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حسن القضاء في القرض، حيث قال: ان الناظر في الصدقات لا يجوز تبرعه منها، والرسول – صلى الله عليه وسلم – اقترض لنفسه، فلما جاءت ابل الصدقة اشترى منها رباعيا ممن استحقه فملكه الرسول – صلى الله عليه وسلم – بثمنه، وأوفاه تبرعا بالزيادة من ماله، قد يقول البعض ان عدم جواز التبرع هنا يراد به تبرع الرسول لنفسه، وهو لا تجوز له الصدقة، فلا يجوز له التبرع منها، والرد على هذا بأحد وجهين، اولهما، لو كان المراد التبرع لنفسه لقال التبرع له، أو عليه، ولم يقل تبرعه، وثانيهما ان هذا رد على الاستدلال بجواز القرض من مال الصدقة حيث نقل «ان الرسول – صلى الله عليه وسلم – استسلفه لأهل الصدقة من ارباب المال»، كما ان عدم جواز التبرع للرسول – صلى الله عليه وسلم – من الصدقة ليس محلا للخلاف، ومن ادلة عدم جواز القرض من المال العام قصة أبي موسى مع ابني عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم – حينما اقرضهما من مال الجيش، وعندما رجعا الى عمر بن الخطاب رد هذا القرض الى المضاربة. والعجيب هنا ان هذه القصة استدل بها بعض فقهاء العصر الحديث على جواز القرض من المال العام، الا ان هذا الاثر دلالته على عدم صحة القرض من المال العام، ويؤيد هذا استناد الفقهاء الى هذه الواقعة للقول بعدم جواز القرض من المال العام، ومنع الولي من الاقراض من مال اليتيم، وقد صرح بهذا الباجي في شرح موطأ الامام مالك، حيث قال فيما عرضه من مسائل تفريعا على هذه الواقعة «فلا يجوز للامام ان يسلف شيئا من مال المسلمين ليحرزه في ذمة المتسلف، وكذلك القاضي والوصي في مال اليتيم، وقد نص على هذا اصحابنا في مسألة القاضي»، والاغرب ان الباجي ذكر ما يفيد جواز القرض بزيادة في مثل هذه الحالات، حيث قال: «ان ما لا يجوز للانسان في مال نفسه من الارتفاق فإنه يجوز له في مال يلي عليه كالسلف بزيادة». لقد استند فقهاء العصر الى جواز القرض من الشخص المعنوي، بناء على دلالة هذه الواقعة على جواز القرض من المال العام، وذلك لأن عمر بن الخطاب لم يبطل القرض الا لشبهة المحاباة، وقد ورد في الواقعة ما يشير الى استنكاره للمحاباة، الا ان هذا التوجيه لا يمكن التسليم به، لأن المضاربة لابني عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم – لا تخلو ايضا من المحاباة، فلو ان المحاباة سبب بطلان القرض لكانت موجبا لرد المضاربة ايضا، ويمكن القول ان عمر بن الخطاب عندما سلم بضرورة استمرار العقد رده اما هو جائز، وهو المضاربة، وأبطل القرض مع ان العقد تم على اساس القرض، وكان الاولى نفاذه لو كان جائزا. قد يقول البعض لو ان القرض بفائدة جائز من بيت المال فلماذا لم يرده الى القرض بفائدة، وهذا وجه لدلالة الواقعة على عدم جواز القرض بفائدة. يرد على هذا الاعتراض بأنه لم يتم الاتفاق على هذا القرض، والمسألة اعيدت لعرف التعامل، وما هو معروف في المعاملات هو المضاربة، لا القرض بفائدة، لعل هذا سبب تفضيل المضاربة، وقد يكون القرض بفائدة غير مباح ولكن ليست بدلالة هذه الواقعة. ان جواز القرض من بيت المال لا يعني ضرورة اباحة القرض من الشخص المعنوي الخاص، أو المال اذا انفصل عن الشخص كالولي والقاضي ومن في حكمهما، وذلك لأن بيت المال يخص كل المسلمين، ولهذا للجميع حق في بيت المال لتفريج كربهم، فهذا ليس من باب التبرع، أو القرض الحسن، وانما من باب ما يعرف الآن بحق الفرد في الخدمات العامة أو مقابلها من خزينة الدولة، والمصارف التجارية لا تعود لبيت المال بل هي اموال خاصة، وهي اموال منفصلة عن المتصرف فيها، فهي تعد شركة مضاربة، واعترف لها الفقهاء بالشخصية المعنوية المستقلة عن المؤسسين، وما دامت العبادة غير متصورة منها، وليست من باب حق المسلم في بيت المال، فلا يتصور القرض الحسن في شأنها، فالقروض المصرفية لا تدخل في معنى القرض في الفقه الاسلامي. ان اعتبار القرض عبادة وربطه بالحاجة يدل على ان القرض المصرفي لا يعد من باب القرض في الفقه الاسلامي، بل له خصوصيته، وتطبق عليه معايير غير معايير القرض في الفقه الاسلامي. يؤيد القول بخصوصية عقد القرض المصرفي، وعدم اعتباره نم باب القرض لانعدام المحل أمور، أهمها: -1 اتفاق علماء الاصول على بطلان التبرع بالاموال ممن له ولاية ادارة الاموال والتصرف فيها، ولو بالصدقة، والهبة، كما هو الحال في مال المجنون، والصبي، وما عند القاضي، والقرض لا يختلف عن معنى الصدقة والهبة في هذه المسألة، فالمال هنا استقل عن مالكه، والتصرف فيه معاملة، ولا يتصور فيه العبادة، والقرض عبادة، والشخص مالك المال غير مكلف، ولم يصدر منه التصرف. -2 مكان القرض بين ابواب الفقه، فالكاساني – مثلا – وضعه بعد الشهادات والحدود والوصايا، أي ختم به الكتاب دليل على استقلاليته، والتسولي من المالكية جعله فصلا من باب التبرع وصدر هذا الباب بالصدقة، ولا اعتقد ان هذا التصنيف بلا معنى ممن هو في علمهم وسعة افقهم. - عدم تناول احكام الاقراض من الشركات في باب القرض في جل مصادر الفقه الاسلامي، وتناولت بعض المصادر احكام الربا مع الشركات في باب المعاملات، ولعل في هذا اشارة الى ان التعامل مع الشركات ليس من باب القرض، وهذه مسألة كأنها محسومة عندهم، لأن اتفاق الفقهاء على عدم عرض هذه المسألة في باب القرض يعني احد امرين، اولهما ان القرض من الشركات ليس في معنى القرض كعبادة، وثانيهما جهله، والثاني لا نؤيده لأمور اهمها: - عرض احكام التعامل مع الشركات في باب المعاملات، وهذا يعني ان هذه الصورة غير غائبة عن اذهانهم. - عرف الفقهاء بحدة الذكاء وسعة الافق، والتوسع في الافتراض، حيث تناولوا مسائل اكثر غموضا من هذه، لذا لا يتصور غياب هذه الصور عن اذهانهم، ولا تجاهلهم لها. - ان التبرع من بيت المال اذا سلمنا بوجاهة هذا الرأي لا يعني دخول القرض المصرفي في معنى القرض، فإن هذا لا ينطبق على شركات الاموال، أي شركة المضاربة، ومنها الشركات المساهمة، لأن استخدام بيت المال في سد حاجات المسلمين باعتباره مالهم، ووجد لسد حاجاتهم، وهذا يختلف عن شركات المضاربة.