الشروق - القاهرة سمعت عن نظرية الجيل الرابع للحروب للمرة الأولى منذ بضعة شهور، حينما تمت دعوتى كضيف فى برامج إحدى الفضائيات، واعتذرت لأنى لم أسمع عن الموضوع من قبل، لم أعر الموضوع اهتماما كبيرا فى البداية وخصوصا حينما شاهدت الحلقة التى كان من المفترض أن أحل بها ضيفا ووجدت الخبير الإستراتيجى الذى ظهر بدلا منى يتحدث عن مؤامرات تُحاك لنا تحت دعوى الثورات وأن الأخيرة ما هى إلا جيل رابع من الحروب دخلت مصر فيه تحت دعوى الحرية والديمقراطية! لكن فى الشهور التالية وجدت أن النظرية أصبحت تتردد فى كل مكان على صفحات الجرائد وفى برامج التوك شو والمقلق أن تبنيها لم يكن فقط على ألسنة الخبراء الاستراتيجيين ولكن أيضا بواسطة إعلاميين ونشطاء ومثقفين وأكاديميين، فقررت البحث. لم يستغرق البحث طويلا، فوجدت أن النظرية مشهورة بالفعل فى أوساط غير عربية (أمريكية بالأساس)، لكن ما لفت نظرى أمرين، الأول أن النقاش الأمريكى لها شبه مقصور على العسكريين، والثانى أن نقد النظرية لدرجة هدمها كان هو أصل النقاشات وليس الترويج لها وتبنيها كما هو الحال فى مصر. لفت نظرى من كل هذه الانتقادات للنظرية المفترضة، ورقة نقدية مطولة كتبها عسكرى أمريكى هو أنطوليو ايشافاريا Antulio Echevarria بعنوان «حرب الجيل الرابع وأساطير أخرى» fourth-generation war and other myths، وتم نشرها فى 2005 وتناول فيها الموضوع بنقد عميق وتفنيد لكل حججها الواهية، والسيد أنطوليو هو خريج الأكاديمية العسكرية الأمريكية وتقلد العديد من المناصب الرفيعة فى القيادة العسكرية الأمريكية فى الداخل الأمريكى، وكذلك فى ألمانيا وهو وقت كتابة نقده كان رئيس قسم الإستراتيجية والتخطيط الاقليمى فى مؤسسة الدراسات الاستراتيجية بالولاياتالمتحدة، أما الآن فهو رئيس تحرير الدورية الرئيسية للكلية الحربية الملحقة بالجيش الأمريكى. وجه الرجل أربعة انتقادات رئيسية للنظرية الوهمية فى زهاء 30 صفحة على النحو التالى: أولا: النظرية التى خرجت مع نهاية الثمانينيات والتى تفترض أن الحروب تطورت من استخدام القوة الجسدية والأسلحة البدائية (الجيل الأول)، وقوة النيران والأسلحة الأكثر تطورا (الجيل الثانى)، والحروب الخداعية بما فيها الحروب بالوكالة (الجيل الثالث)، ثم إلى حروب الجيل الرابع والتى تفترض اتخاذ أشكال غير تقليدية من فاعلين من غير الدول (منظمات وحركات إرهابية) لإحداث فوضى داخلية، ليست نظرية وليس لها دليل واقعى حتى ترقى إلى مستوى الفرضية! ولكنها مجرد تصور وضعته المخابرات الأمريكية بالتعاون مع عسكريين أمريكيين لتبرير قصور قدرة هذه المؤسسات على التعامل مع الجماعات الجهادية والإرهابية، التى تعرضت لأهداف أمريكية مع نهاية الثمانينيات (بعد الانتفاضة الأولى فى فلسطين) وخلال التسعينيات، فبدلا من الاعتراف بتغيير طريقة المهاجم وفشل أجهزة الاستخبارات فى التوقع بهذه الهجمات، تم الترويج للنظرية الوهمية لحفظ ماء الوجه وتبرير القصور والفشل. ثانيا: إن النظرية الوهمية قد اتخذت خطابا ترويجيا جديدا بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر وفى أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، لتبرير فشل مواجهة حركات حماس والجهاد والقاعدة، وفشل حماية أهداف أمريكية فى الداخل، وأن الترويج الجديد قد انطوى على خطورتين، الأولى (والكلام مازال لانطوليو) أنه حاول توريط أكاديميين ومثقفين فى الدفاع عن الفشل العسكرى الأمريكى بالترويج لنظرية المؤامرة بدلا من قيام المثقفين بأدوارهم التقليدية بالبحث والاستقصاء والتحليل، أما الخطورة الثانية فهى أن النظرية فى هذه الطور الجديد ادعت أن هجمات جديدة من هذا القبيل سوف تتكرر فى محاولة للادعاء بالتنبؤ بالمستقبل وتبرير أى فشل مستقبلى فى توقع مثل هذه الهجمات بدعوى أن الافتراض الرئيسى للنظرية أن (الإرهابيين سيوجهون لنا ضربات مستقبلية غير تقليدية) دون بذل جهد حقيقى لتحديد متى ستقع مثل هذه الهجمات وما وسائل مواجهتها؟. ثالثا: إن النظرية اعتمدت بالأساس على ترجمة خاطئة لأعمال منظر عسكرى ألمانى فى القرن التاسع عشر يدعى كارل فون كلاوسفيتز Carl Von Clausewitz تحدث عن تخوفه من تطور قوى الأعداء بشكل غير تقليدى يخرج عن سيطرة المواجهة فتتعرض القوى الوطنية للهزيمة، مفترضا أن تحقيق النصر العسكرى لا يكون فقط بالصراع المسلح، ولكن أيضا ببناء نظريات لتقييم الاحتمالات المختلفة لإستراتيجيات الخصم، وهو بذلك يدعى لتطوير فكر المواجهة، فتمت ترجمة خاطئة للعمل تتحدث عن حروب غير تقليدية لإسقاط الخصم بواسطة كتاب نظرية الجيل الرابع بدلا من الرجوع للنص الأصلى والذى يتحدث عن دعوة للتفكير الإستراتيجى، الذى يخرج عن نطاق المواجهات العسكرية التقليدية. رابعا: إن النظرية تعتمد بالأساس على فهم خاطئ لصلح ويستفاليا الذى أسس الدولة القومية فى أوروبا، حيث تفترض النظرية أن صلح ويستفاليا أسس لاحتكار الدولة وسيطرتها على كل أدوات العنف، بينما الصلح بالأساس اعتمد على إنهاء رابطة الدين كأساس للإمبراطوريات ووضع بدلا منها أسس قومية تقوم على روابط أخرى كالتجاور الجغرافى واللغة والعرق.. إلخ. وهكذا تنتهى الورقة أن نظرية الجيل الرابع ما هى إلا تبرير للفشل المخابراتى والعسكرى الأمريكى وتعبير عن عدم الاعتراف بحقيقة تطور الفاعلين من غير الدول وضعف قدرة الدولة على احتكار وسائل العنف التقليدية وغير التقليدية أمام عالم متعولم وشبكات علاقات بين فاعلين قادرة على تخطى الحدود التقليدية، داعيا العسكريين الأمريكيين إلى التخلى عن وهم النظرية والاعتراف بدلا من ذلك أن ثمة أمرا واقعا جديدا على الدولة القومية الاعتراف به والبحث عن وسائل غير تقليدية لمواجهته، محذرا من الأضرار الجسيمة على الأمن القومى الأمريكى خاصة لو تبنى الأكاديميين والمثقفين للأفكار التآمرية بديلا عن الفكر التحليلى النقدى. المقلق فى الأمر أننا لو نظرنا إلى النظرية فى نسختها المصرية والعربية لتألمنا كثيرا لأنها: أولا: سحبت من سياقها الأصلى كنظرية عسكرية أمريكية تبرر فشل مواجهة الحركات الجهادية والإرهابية غير التقليدية إلى سياق سياسى مصرى لتبرير وقوع الثورات والإضرابات والتظاهرات وهو سياق مخالف كليا للسياق الذى وضعت فيه ومن أجله. ثانيا: إن النظرية التى تم تسييسها بالأساس للتعامل مع حركات الإسلام السياسى العنيفة (من وجهة النظر الأمريكية) تم ترديدها كما هى للتخلص من أى مظاهر تعددية وديمقراطية والتخلص من الخصوم السياسيين والحركات الثورية. ثالثا: إن النظرية لم يروج لها خبراؤنا الاستراتيجيون فقط، ولكن تم تنبيها بواسطة جيش من المثقفين والسياسيين والإعلاميين دون فهم أو وعى بأبعادها، بل وحتى دون محاولة جادة للنظر فى أوجه قصورها وأساطيرها ونقدها. رابعا: أن النظرية فى النسخة العربية قد تم استخدامها لتبرير فشل الدولة للتعاطى مع مواطنيها قبل واثناء وبعد ثورة يناير وبدلا من الاعتراف بالقصور الرهيب فى فهم التيارات الثورية والشابة والبحث عن معادلات إصلاحية كحد أدنى لاحتواء هذه الحركات، وأخيرا فإن النظرية الوهمية يتم استخدامها بكثافة فى هذه الأثناء فى المحروسة للإيحاء بأن العالم كله يتآمر ضدنا وفى مقدمة هذا العالم طبعا الولاياتالمتحدة (وللمفارقة كما ترى فإن الولاياتالمتحدة أصلا هى من اخترعت وروجت للنظرية للإيحاء بأن قوى غير تقليدية تتآمر عليها)، وهو ما يؤدى إلى رسوخ قناعة لدى المواطن الناخب بأن مصر لا تحتاج إلى سياسيين وأحزاب ولكنها فى حاجة إلى رجال دولة وأبطال قوميين، ولا يفوك ذكاءك قطعا فى فهم النتيجة. هذه رسالة متواضعة لمن يهمه الأمر فى مصر والعالم العربى، لن يفيدنا ترديد أسطورة تم اختراعها منذ ربع قرن للتحايل على فشلنا السياسى وللتغطية على حقائقنا المؤلمة، أو لتبرير تحول مواقف بعضنا السياسية 180 درجة، لم تقم ثورة لأن جيل رابع من الحروب يتم شنه علينا بواسطة أعداء، لكنها قامت لأن هناك حقوقا مهدرة وقوانين معطلة وشبابا مقموعا وطبقات مدقعة الفقر ومؤسسات محصنة وشبكات سياسية عميقة غير شفافة تدير دولتنا، وحل ذلك كله بالاعتراف بمشاكلنا أولا، ووضع حلول عملية لها ثانيا، ودعم عملية سياسية تعددية ديمقراطية تشاركية إصلاحية شفافة ثالثا، وبغير ذلك سنظل نعيش فى أساطير لا تبنى وطنا.