مكة اون لاين - السعودية ما إن تبرز قضية وتصبح «قضية رأي عام» حتى نتعامل معها بطريقتنا المفضّلة، فنجعل القضية حمامة (رومانسية)، جناحاها العاطفة والانفعال، وتحضر من (لا وعينا) القصائد العتيقة، فنتخلى عن (برستيج) الوسطية، والوسطية هذه (وشمناها) بأنها مطاطية تفتقر للوضوح وللموقف الحاسم، فننحاز ل(ونحن أُناس لا توسط بينا). لنا الصدر دون العالمين أو القبر)، ومع ذلك نكاية وإيغالاً بالعناد نزايد على من رأى أن ذلك منافٍ للوسطية، وفي أحسن الأحوال نقاتل لتجهيل الآخر ونحاول بخبث بأن نوهمه أن الوسطية هي المسافة الضبابية بين (لا ونعم) ، ثم ننطلق كعادتنا (كل شيء يحدث لدينا هو عادة ليس إلا). ونناقش القضية حسب نظرية (طلاء السقف أولاً)، فنتجاهل الأسباب ونُحاكم النتائج، وهذه طريقة رغم شحنتها العاطفية فإنها تفتقد (للصدق)، فلو أخذنا القضية التي أثارها الإعلامي داود الشريان في برنامجه الشهير لوجدنا أن العاطفة والانفعال كانا الأبرز، فاختزال القضية بأشخاص و»فلاشات» سريعة لا شك أنه (عمل) رائع وذكي من قبل الأستاذ داود الشريان، فهو رمى حجراً في البحيرة، ولهذا كان (الفعل) بحد ذاته ناجحاً إعلامياً، لكن المُحبط أن الجميع بمن فيهم الكُتّاب والمفكرون تعاملوا مع القضية بنفس الطريقة التي أداها داود (الإعلامي)، فرمي الحجر في البحيرة قد يكون كسر (زجاج الشبّاك) الذي تساقط بطريقة عشوائية وتسبب بأذى آخرين لا علاقة لهم في الأمر، وقد يكون وقع في البحيرة الخطأ، كل هذه الاحتمالات ليست من اختصاص (المقدم التلفزيوني)، بل هي صميم تساؤلات يجب أن يُجيب عليها المثقف، فداود عندما سمّى أشخاصاً بعينهم ووصفهم بالمحرضين هو يشير إلى (نتيجة) لا يمكن تجاهلها، والعمل الإعلامي يتبنى القضية أي يُشير إلى المرض، فالإعلام من صميم عمله أن يتكلم عن الأوبئة، لكن أن يظن الطبيب أيضا أن دوره يجب أن يكون إعلاميا فتلك (طامة)، نعم هناك محرّضون نعرفهم جيداً، مثلما نعرف أن ثقافتهم (القانونية) أخبث من أن يدعوا للتحريض بلغة واضحة، إنما يتركون باب اللغة موارباً للاحتمالات، فلم نرَ من تكلم بلغة صريحة وأوضح أن الجهاد المزعوم بشكله الحالي القائم بالاقتتال بين (فصائل) كل منها تدعي أنها ممثلة (للإسلام) الصحيح. لم يقل أحد أن تسميتها ب(الجهاد) هو نوع من التألي على الله وأن في هذه الحالة (القاتل والمقتول في النار)، لكن ما حدث وما يحدث أن أولئك بدؤوا بالالتفاف واللعب على (مراجيح حمّالة اللغة)، فتارة يقول أحدهم إن أهل الشام ليسوا بحاجة لرجال، هم بحاجة إلى أموال، أي أن الجهاد هناك صحيح، والتحفّظ فقط على عدم حاجة (المجاهدين) للرجال، ولو انتفت العلّة (أي احتاجوا للرجال فالجهاد واجب). بالطبع هو لم يقل هذه التفاصيل، هو فقط قال حرفياً (المجاهدون ليسوا بحاجة للرجال)، و(كل واحد وفهمه!)، هذا نموذج للتحريض (الناعم)، ومع ذلك يجب أن نُشرع أبواب الأسئلة لما هو أبعد من (فلاشات إعلامية) أو (صراع وتشفٍّ بين أيديولوجيات)، ولهذا يجب أن نكون أكثر شجاعة ومكاشفة وصدقاً مع أنفسنا عندما نتحدث عن مشاكلنا، نعم نحزن لما يجري في سوريا كأي عربي ومسلم ولا مزايدة على ذلك، لكن بنفس الوقت مشاكل الحروب والمجاعات تأتي ثانية في الأولويات بعد مشاكلنا الداخلية، فقبل أن أبحث عن جواب لما يجري في سوريا، وهل أبناؤنا شهداء أم مقتولون؟، وهل هم مجاهدون أم منطوون بدون وعي لمجموعات متقاتلة؟ فإن الأهم بالنسبة لي: ما الذي جعل الشاب السعودي بهذه الهشاشة الفكرية لدرجة أنه أصبح قابلاً للتحريض بكل سهولة، وعلى استعداد أن يعتبر الآراء من المتدينين هي فتوى (يجب) أن يعمل بها، من جعله (يُلغي) عقله ويعتبر أن (التحريض) هبة أتته من شيخه، وخصّه بها، وهو -(المُحرِض)– وقد أخفاها عن نفسه وأولاده وجعلها لمريده الأثير الذي تقبّلها شاكراً وذهب للموت!بدلاً من رمي تُهم التحريض أو نفيها، ينبغي أن نعي أن (إسكات) المحرضين ليس هو الحل بحد ذاته، وليس الإشكالية أن يكثر (المُحرضون)، بل المصيبة لو همّشنا السبب الحقيقي لجعل الشاب قابلاً للتحريض!