كان نشيج (أم محمد) وهي تبكي طفلها ذا السبعة عشر عاماً، والذي غرر به المحرضون فدفعوه إلى حيث الجهاد في سبيل داعش والنصرة، يكاد يقطع نياط قلوب من كانوا يستمعون إليها في(برنامج الثامنة)، الذي خصصه الإعلامي القدير الأستاذ: داود الشريان لتسليط الأضواء على فئة من بني جلدتنا ومن غيرهم، ممن تولوا كبر الدفع بأبنائنا إلى محرقة الحرب السورية، تحت شعار"الجهاد". كان من جملة ما قالته أم محمد في ذلك المساء، وهي تغالب نشيجها،"أنا امرأة مريضة، وابني ضاع مني ويعذب الآن، وأتمنى أن ألتقي وزير الداخلية محمد بن نايف لأخبره ببعض الأحداث التي لا تقال على التلفزيون". ثم أفاضت بالحديث عمن غرر بابنها الصغير، لتؤكد على أن "هناك من خطط لخروجه وتوجهه إلى القتال في بلاد الشام، على الرغم من صغر سنه، إلى درجة أنه لا يعي كلمة جهاد، وأن صورته لا تفارق خيالها، وأن وضعها الصحي بسبب ذلك سيئ للغاية". وختمت حديثها بدعوتها المحرضين أن يتقوا الله فينا قائلة:"اتقوا الله فينا، ونحن نصلي قيام الليل وندعو عليكم". إذا كانت(أم محمد) قد أسالتْ دموع كثيرين ممن قدر لهم أن يستمعوا إلى نحيبها، فهناك عشرات، بل مئات، بل ربما آلاف من(أم محمد) أخريات يعانين مثلها، نتيجة خطف أبنائهن/أطفالهن من أحضانهن، والرمي بهم في أحضان داعش والنصرة، وغيرهما من كلاب النار! لقد وضعت تلك الحلقة النقاط على بعض الحروف، وسمّت بعض الأشياء والأناسي بأسمائها، فيما كنا نداريها ونحوم حول حماها غير قادرين على دخول الحمى ذاته. لقد أصبحنا نحن السعوديين منذ أن استباحنا(فكر الغفوة) الهجين، مطية مشدودة لكل من يبتغي تحقيق طموحاته السياسية. منذ أفغانستان ونحن جاهزون لتلقف شعارات"الجهاد"، ودعوات تجار الحروب، حتى بتنا قاسماً مشتركاً في التهافت على حروب أهلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل! إذا كانت(أم محمد) قد أسالتْ دموع كثيرين ممن قدر لهم أن يستمعوا إلى نحيبها، فهناك عشرات، بل مئات، بل ربما آلاف من(أم محمد) أخريات يعانين مثلها، نتيجة خطف أبنائهن/أطفالهن من أحضانهن، والرمي بهم في أحضان داعش والنصرة، وغيرهما من كلاب النار! أأنبئكم بقصة قريبتي التي كانت تكحل عينيها كل يوم برؤية ابنها الشاب وهو يتابع فريقيه المفضلين: المحلي والأوروبي، ويزين غرفته بصور وشعارات لاعبيه المفضلين ونادييه، والتي لم تكن تعلم حينها ما يخبئه لها القدر حين بدأت على ولدها أمارات(الاستدعاش)، فتزيا بالزي القاعدي"الجهادي"، وأطلق على نفسه كنية"جهادية"، وقطع علاقته بالكرة بصفتها، كما قال له محرضوه، مقعدة عن"الجهاد"، ولم تكد تمضي أيام على(استدعاش) الصبي حتى هاتفها من سورية طالباً إياها أن توافيه في"الجنة"، بعد أن يُقتل هو في سبيل طموحات البغدادي والجولاني وغيرهما من رؤوس الفتنة! أم هل أنبئكم بقصة قريبتي الثانية، التي فقدت ولدها الذي لم يناهز السبع عشرة سنة، بعد أن نعوه إليها مقتولاً في سورية فيما كانت تنتظر عودته من سفره! فاعتزلت الناس والحياة، واصطلت ببؤس الأيام ومرارة الفقد، وبينما هي تغالب حسرتها، إذ هي تفجع بطارق لم يطرق بخير، حين أخبرها ب"نفير" أخويه الآخرين إلى أرض اليباب، بعد أن أفتى لهما شياطين الإنس بأن استئذان الوالدين لا يلزم في جهاد الدفع! دونكم أيضاً قصة قريبي الشاب الذي سافر منذ سنة إلى سورية بقصد"الجهاد"، لكنه عاد قبل أيام قلائل من هناك، مقسماً بالله انه لم يولهم يومئذ دبره إلا متحيزاً إلى الجهاد الحق:جهاد النفس، بعد أن شهد على أن"المجاهدين" نكصوا على أعقابهم، فأصبح بعضهم يقتل بعضاً! وليس ثمة ملامة عليه، إذ هو صغير في السن، لم يعايش سلفهم: المجاهدين الأفغان عندما صوبوا سلاحهم نحو نحور بعضهم، بعد أن انسحب الروس آنذاك، وتخلت عنهم المخابرات الأمريكية. لم يكن ليعلم وهو الغر الصغير، أن"مجاهدي" الشام لن يكونوا بأحسن حالاً من سلفهم الأفغان، الذين امتلأت المطويات والكتب آنذاك بذكر كراماتهم الجهادية!! لا يسعني، كما غيري من محبي هذا الوطن وأهله، إلا أن أشيد بالزميل:داود الشريان عندما سمّى بعض المحرضين بأسمائهم الصريحة، قائلاً لهم بلهجته النجدية الجميلة:"فكونا من شركم!". ومن العجب العجاب أن أحد من سماهم الشريان بصفته محرضاً صنديداً، لما يزل ينفي عن نفسه تهمة"التحريض"، وهو الذي ما برح يحرض ويحرض ويدعو إلى"الجهاد" منذ أفغانستان، مروراً بالشيشان عندما تغنى بأحد قواد الحرب السعوديين هناك، المدعو(خطَّاب)، وبالعراق حين وجه وأقرانه ما سموه(خطاباً مفتوحاً إلى الشعب العراقي المجاهد)، دعوا فيه المسلمين في العالم إلى (نصرة) العراقيين قدر الإمكان! وصولاً إلى سورية حيث الدعوات المغلفة بغلاف موهم يتناسب وظروف المرحلة. أما الآخر منهم فلو لم يأت من تحريضه لشبابنا على إلقاء أنفسهم في تهلكة الحرب السورية إلا عندما امتطى منبر مسجد عمرو بن العاص بالقاهرة داعياً إياهم إلى "الجهاد" في سورية، ثم ولاهم دبره إلى حيث عاصمة الضباب يتفيأ ظلالها عن اليمين وعن الشمائل بعد أن أضنته الرحلات المكوكية الجهادية! ومع ذلك، يبدو أننا لم نكتف بالمحرضين المحلين، فذهبنا نستبق لاحتضان محرضين أجانب، سوريين بالتحديد، فأخلينا بينهم وبين أرضنا يجمعون منها التبرعات الهائلة، ويسترزقون بالاستثمار الأجنبي، ويعيشون ملوكاً على الأسرّة، ثم يزينون لأبنائنا إلقاء أنفسهم في أتون نار بلدهم وهم قاعدون. بل إنهم أصبحوا يتبجحون بالهجوم على من يطالبهم بالذهاب إلى بلدهم والجهاد هناك، حتى إن أحدهم تهكم على من يدعونه ووالده وإخوانه إلى الذهاب إلى سورية والجهاد هناك، بصفتهم سوريين بقوله:" بعض الناس أكبر همه ليش أولاد(...) ما يجاهدون؟ ما نبغي نجاهد كذا عباطة، إيش دخل أهلك في الموضوع؟ لن يعذبك الله نيابة عنا". إننا، إذ لم نتعظ بعد مما مر بنا من تهافت أبنائنا على حروب طائفية، وأخرى بالوكالة عن مصالح دول كبرى، منذ أفغانستان مروراً بالشيشان والعراق، وصولاً إلى سورية، إنما ينطبق علينا قوله تعالى:" أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون"، فهل نتوب وندكر، فنجتمع على كلمة سواء ضد أولئك المحرضين الذين يلبسون جلود الضأن من اللين، وقلوبهم قلوب الذئاب؟