الحياة - السعودية اذهبوا إلى الجهاد، واتركوني أدعو لكم! احزموا حقائبكم، لا تودعوا ذويكم، اتركوا لهم رسالة، أو دعوا أحداً يتصل بهم ليخبرهم، فالواجب يناديكم، وهو أهم من ذويكم، هبوا هبة رجل واحد، اذهبوا شيباناً وولداناً، لتقاتلوا أعداء الله، كيف يستقيم جلوسكم والملائكة تقاتل مع إخوانكم في كل مكان، بل «حدثني أحدهم أن الملائكة هناك تقاتل جنباً إلى جنب على خيول بيضاء»، فهبوا وتوافدوا إلى حيث يقاتل الملائكة، ادعموهم وانصروهم ينصركم الله، وأبشركم، فالحور العين يتشوقون لرؤيتكم، الحور العين تدمع أعينهن، وهن بانتظاركم، بل يتنافسن فيما بينهن للظفر بكم، فلا تخشوا شيئاً، أما أنا، «وحدي أنا» فسأقعد ها هنا، لأنفذ مشيئة الله وقدره، لا تشغلوا بالكم، فسأكون مع أهل بيتي، ادعوهم وأنا معهم للصلاة والدعاء لكم، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، اذهبوا فوالله إني أرى بشائر النصر قريبة. هكذا إذاً، «أرى بشائر النصر قريبة»، لا بأس، دعونا نراها قريبة، ولنتحدث بواقعية أكبر، فما سبق هو في واقع الأمر دعوة مني تم اقتباس بعض جملها من آخرين، مثلما يتم اقتباس جمل من «هتلر» وغيره، عموماً هذه اللغة وهذا الحديث يذكرني بقصة سبق أن أوردتها، وفي التفاصيل أن مركباً تعرض لعاصفة بحرية عنيفة، جعلت كل من على متنه يوقن أن الموت مقبل لا محالة، وبينما هم في غمرة سعيهم إلى النجاة بأرواحهم، خرج «الكابتن» من قمّرة القيادة، وهو يصرخ، ويقول: ابشروا يا قوم، فوالله أبلغتني الملائكة أننا سننجو، فقطب مساعده حاجبيه مستغرباً، وكأن صاعقة هوت عليه، لمعرفته أن الرجل يشرب المسكر، وأبعد ما يكون عن الدين، فهمس في أذنه: «ويحك ما تقول يا هذا»؟ فابتسم بخبث، وقال: لا عليك، إن نجونا فسأتحول إلى بطل، وإن غرقنا فلن يعلم أحد بذلك، بطبيعة الحال يبدو أن المركب نجا، لتصلنا هذه الرواية. تجسد هذه القصة المنهج الذي يتبعه عدد من الدعاة لاسيما دعاة «الجهاد»، وهو نوع من «التنجيم»، فأي حدث كان لا بد من أن تكتب نهايته، فعلى سبيل المثال، عندما يخرج أحدهم، ويتحدث عن نهاية مشهد معين، كمن يتحدث عن نهائي «كأس ولي العهد»، فواحد من الفريقين سيفوز باللقب، وهذا أمر حتمي بغض النظر عن أفضلية الهلال بحكم التاريخ، فإذا فاز الهلال سيخرج من بشّر بفوزه، ليقول: ألم أقل لكم؟ وإن حدث العكس، وفاز النصر، سواء بمساعدة الحكام أم بالحظ، فعندها سيخرج من يقول: بشرتكم! أما الطامة الكبرى، فهي عندما يتوقع كمية أهداف معينة، وتكون هي بالفعل أهداف المباراة، عندها سيتم اللجوء إليه قبل كل مباراة. عودة إلى المشهد الأول، فالدعوة إلى الجهاد تعني لي الكثير مثلما تعني لآخرين مستهم تلك الدعوة، والأكيد أن محاولة الهروب للأمام التي لجأ إليها بعض المشايخ وإنكارهم ترويج تلك الدعوات، يحتملان الكثير من الألم والغبن، لأنهما باختصار يبينان أن هناك من خدعنا قبل أن يحاول اليوم استغفالنا. لا أتحدث بالألغاز، بل بما هو أمامي، فدعاة ثاروا وتسابقوا هم وأتباعهم لكيل الشتائم والتهديدات، عندما قام إعلامي بتحميلهم مسؤولية دماء السعوديين التي سالت في الدول الأخرى، التهم لديهم جاهزة: تغريبيون، مرتزقة، إعلام مأجور، عملاء للحكومة، كل ذلك لا يهم، فليقولوا وليزيدوا بقولهم، طالما يعتقدون أن هذا يقربهم من الله، لكن السؤال هنا، لماذا ثاروا إذا كانوا فعلاً مؤمنين بما كان يرددونه جهراً وخفية؟ بالأمس خرج أحدهم ممن كان له صولات وجولات على المنابر تارة ومن على ظهور الخيل تارة أخرى في الدعوة للجهاد في سورية، وبكل بساطة لم يتراجع عن فكره، ولو فعلها لكان أهون، لكنه أنكر تماماً، وتنصل من كل ما قاله وما دعا إليه، نفهم أن يستعجل البعض أحياناً، وينزلق البعض أحياناً أخرى، ثم يعود إلى رشده، ويعترف بخطئه، لكن أن نقول قولاً، وننكره في ما كتبناه وسجلناه ما زال متداولاً، فهنا الأمر يصبح كذباً، ومدعاة للمحاسبة أيضاً، ما لم يكن أولئك الدعاة غير مقتنعين بما قالوا ودعوا إليه، هنا ينبغي لنا معرفة، لماذا قالوا به إذاً؟ دعوات الجهاد إلى سورية ليست الدعوة الوحيدة، فسبقها دعوات مماثلة إلى العراق ومن قبلها أفغانستان، ولا نعلم أين ستكون المرة المقبلة؟ فيما أصحاب تلك الدعوة يتوارون خلف دعوتهم، أي خبث هذا وأي جرم يقترفونه في حق شبان بعمر الزهور، قدروهم واحترموهم وعملوا بقولهم؟ لا شك في أن ما نشاهده من تلاعب «أمر مؤسف»، وهنا ينبغي مواجهة الفكر بفكر والحجة بالحجة، فلسنا في وارد كيل الشتائم، فنحن نتحدث عن أرواح أُزهقت، فيما نتسابق هرباً من مسؤولياتنا، ولعل من تم ذكرهم واتهامهم بتجييش الشبان ومشاعرهم واقتيادهم إلى ساحات الموت مسهم الاتهام، واستشعروا عظم الجرم الذي اقترفوه خوفاً من مسؤولية رسمية قد تطاولهم، ولا أستثني منهم أحداً، لكن علينا أيضاً التعامل بذكاء، فمنهم من لديه القدرة على التنصل، ولديه القدرة على التلاعب، وهنا دعونا نكون واضحين، فمن يتمكن من تجييش تلك العقول كافة لا يمكن وصفه بالغباء، بل على النقيض تماماً «هم أذكياء»، لكن بعضهم لا يحسن حفظ لسانه، فيشطح بعيداً، فيما البعض الآخر أكثر قدرة وأكبر عقلية من الآخرين. لأكون أكثر صراحة، فأحدهم شخص حريص جداً ومتمكن، ويعرف تماماً ما يقول، ولعله الأعلى «كعباً» من بين المجموعة المذكورة بالحض على الجهاد، وأعتقد أن اتهامه في شكل عشوائي سيضعف الحجة، ولن ينصف ذوي أولئك الذين قضوا بجهاد أُقنعوا به، وهو على النقيض تماماً من الآخرين الذين أطربتهم الكاميرات والفلاشات من حولهم. لذلك، إذا أردنا المواجهة فلا أرشحه إلى أية مواجهة، لأنه ومن وجهة نظري، الشخصية التي أقفل ثغرات وقع فيها باكراً، البعض لن يعجبه هذا القول، لكن علينا الاعتراف بقدرات الرجل وإمكاناته، أما البقية فلسنا بحاجة إلى مواجهتهم، فأولئك ينطبق عليهم القول: «من فمك أدينك»، لذلك مواجهتهم مضيعة للوقت. السؤال الأهم، لماذا يترك الإعلام وحيداً في هذه المواجهة؟ ولماذا يترك هؤلاء لارتكاب مثل هذه الجرائم؟ وأخيراً: أين المفتي والمؤسسة الدينية من ذلك؟