الاقتصادية -السعودية راهن نيلسون مانديلا على المؤبد ''الوطن'' لصالح المؤقت ''الفرد'' فيما اختزل العربي المؤبد والمؤقت فيه، نجد ذلك ممثلا في الأنانية المفرطة عند أبي فراس الحمداني: ''إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر'' أو في الاستخفاف الحاد عند دعبل الخزاعي: ''إني لأفتح عيني حين أفتحها.. على كثير ولكن لا أرى أحدا''. أما نيلسون مانديلا فقد خرج من السجن بعد أن قضى فيه 27 عاما وبعد أن أمضى نصف قرن من النضال ضد سياسة التمييز العنصري، لكنه لم يخرج شاهرا سيفه للقصاص من أولئك الساسة الذين كانوا يرون في سمار البشرة رذيلة وينبذونهم إلى حارات بائسة في أكواخ من القش أو الصفيح ويمنعونهم من الجلوس في حدائق البيض واستخدام مواصلاتهم أو الذهاب إلى مدارسهم وأماكن التسوق والترفيه وحتى دور العبادة، بل خرج شاهراً الصفح والغفران بفيض نبل ضمير شاء أن يحرر به المظلومين ممن ظلموهم والظالمين من ظلمهم لأنفسهم. ثم كرس سنوات رئاسته لترسيخ التآخي وسد أبواب الجحيم. وعندما انتهت ولايته رفض البقاء يوما واحدا في السلطة مفسحا الطريق لما حلم به من ديمقراطية كلل بها هامات السمر والبيض معا. في المقابل.. سارت ديمقراطية العرب في خط دامس كئيب .. فصدام بقي القائد المهيب الأوحد.. طحن بسلخانته الرهيبة أصدقاءه وأقرباءه مع معارضيه .. وثابر حسني مبارك على مسرحية انتخابه مدى الحياة .. وفرض الأسد على البشر والحجر تعويذة ''الأسد للأبد''، وقل مثل ذلك في علي عبد الله صالح والمطلوب لمحكمة الجنايات الدولية حسن البشير .. ولن تغرب عن البال ديمومة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة وخليفته علي زين العابدين إلى عميد التأبيد العربي معمر القذافي.. فكلهم كانوا يعلكون الديمقراطية لفظاً ويزفونها بشرى لشعوبهم بالرقم (9) مكررا خمس مرات في مفارقة عبئية لكوميديا سوداء تعنى أن الشخص الوحيد الذي لم يصوت هو ذلك المؤبد نفسه لا غير! مع أحداث الربيع العربي، وقبله، أخذ المؤقت يتصدر المشهد، فلبنان منذ اغتيال رفيق الحريري إلى اليوم عاش فراغات دستورية يملؤها المؤقت من رئيس يتم طبخه إما بالتمديد أو بفزعة الأشقاء والأصدقاء، كما هو الحال مع رئيس الحكومة.. كذلك عانت العراق ومصر وليبيا وتونس واليمن المؤقت نفسه.. ما إن تخطو أقدام رئيس حكومة إلى داخل البهو الرئاسي حتى يدركها المؤقت. الذين تباكوا على عهد المؤبد بحجة ما آلت إليه الأوضاع بعده من قتامة أشد ومأساوية أفظع يغمضون الطرف عن أن هذا الهولوكوست المريع اليوم ما هو إلا نتيجة استبداد ذلك المؤبد .. وأن هذه الملاسنات الحادة ما هي إلا زفرات أفواه كانت فوهة بندقيته تسدها .. وأن سعار النعرات الدموي ما هو إلا تخبط المقهور من فرط قهر رزح تحته.. وحتما فالكابوس الرهيب يجعل الفرائص ترتعد، حتى بعد اليقظة، ووحدها الكلمات تنفلت من عقالها .. وقد عبر عن هذه الحالة الزعيم السوفياتي الراحل خروتشوف، حين وقف يخطب في الجمهور مهاجما بغلظة طغيان ستالين حيث وصلت إليه ورقة قال كاتبها: ''أين هذا الكلام في عهد ستالين؟'' وقرأ خروتشوف الورقة بصوت عال طالبا ممن كتبها الوقوف لكن أحدا لم يقف.. عندها مزق خروتشوف الورقة نتفا صغيرة ووضعها على كفه ثم نفخ فيها فتطايرت وقال: هكذا كنا في عهد ستالين! المشاحنات الكلامية التي تفيض بها الفضائيات ووسائل الإعلام العربية ما هي إلا تعبير مكثف عن التباس المؤبد بالمؤقت الذي تسيطر عليه معزوفة واحدة فقط عن الديمقراطية، ملخصة بصندوق الانتخابات بحسبانه السحر والساحر، بل التقية المؤقتة لاختزال الوطن بالمرشد أو أمير الجماعة وغيرهما من كهنة الإسلام السياسي. ترى.. هل شرب المؤقت من كأس المؤبد إلى حد التماهي؟ نعم.. وعن سابق تصميم وتصور من قبل الطامعين في السلطة.. أما في الفضاء العام فعن تشوش في الفهم وكساح في الوعي.. وسيظل الحال على ما هو عليه إلى أن تصعد الديمقراطية من روح تصالحية سمحة ضرب مثالها العظيم نيلسون مانديلا.