عندما اختير الممثل البريطاني ادريس آلبا للعب دور المناضل نيلسون مانديلا في فيلم «مسيرتي الطويلة الى الحرية»، قرر اختبار يوم واحد من الأيام التي عاشها البطل الأسطوري. وانتقل الى جزيرة «روبن» حيث سُجِن مانديلا عام 1962، وقضى عقوبة قصيرة عن جرائم سياسية، ثم أعيدَ اليها بعد سنتين ليقضي عقوبة السجن المؤبد أمضى منها 27 سنة من عمره. وبما أن زنزانة السجين الرقم 46664 قد تحولت الى متحف ومزار سياحي، لذلك كُلف الدليل الرسمي بمرافقة الممثل الزائر. وخلال جولة قصيرة، حاول فيها الدليل تقليد خريستو براند، السجّان الذي راقب مانديلا من عام 1978 حتى إطلاق سراحه عام 1990. وأخبره أنه كان أشهر نزلائه، وأنه كان يعلّم الأميين منهم القراءة والكتابة. ولكن ذلك اعتُبِر بمثابة دواء ناجع لقتل مشاعر الوحدة والعزلة التي كانت تنتاب السجناء الذين يقيد كل أربعة منهم بسلاسل تربطهم معاً. كل هذا أثناء عملهم في تكسير الصخور لمدة عشر ساعات يومياً. وقد اشتكى مانديلا من الأذى الذي يصيب عينيه بسبب وهج الشمس المحرقة على الصخور البيضاء والغبار الذي يدخل في الأنوف والأفواه والآذان. ولكن شكاويه كانت تُقابَل بالتجاهل والإهمال. وفي سيرته الذاتية، أشار مانديلا الى العون الذي كان يلقاه من السجّان الذي يمرر له خلسة الكتب التي أحبها. ويعترف بأنه كان مولعاً بمؤلفات شكسبير، وخصوصاً بكتاب يوليوس قيصر. ويتذكر أنه وضع خطاً كإشارة الى الأهمية تحت عبارة: «الجبناء يموتون ألف مرة قبل موتهم... بينما الشجعان يموتون مرة واحدة». والمؤكد أنه كان يعيش الشعارات التي يحبها ويناضل من أجلها. وقد أثبت ذلك في أكثر من مناسبة. ومن الخطب التي سجلها في مذكراته، خطاب ألقاه أثناء اتهامه بالخيانة (20 نيسان - ابريل 1964) قال فيه: «كرّست نفسي طيلة حياتي لنضال الشعب الافريقي. قاتلت ضد هيمنة البيض... وقاتلت ضد هيمنة السود. تعلقت بمبدأ مجتمع ديموقراطي حرّ يعيش فيه الجميع معاً في وئام وبفرص متساوية. إنه مبدأ أتمنى أن أعيش من أجله وأراه يتحقق. وأنا مستعد للتضحية بحياتي في سبيل تحقيقه». في كتابه «قادة» يتحدث الرئيس ريتشارد نيكسون عن عدد من الزعماء الذين عرفهم من أمثال: ونستون تشرشل وشارل ديغول ونيكيتا خروتشيف وشو إن لاي. وقال في تحديد صفات الرجل العظيم: «إنه ذلك الذي يغير حياة الشعب أثناء وجوده... وبعد وفاته». وتبيّن من كلمات الرثاء، التي قيلت في مانديلا هذا الأسبوع، أن نضاله الطويل كان مصدر إلهام لشعوب افريقيا ولكل شعوب العالم. وفي هذا الشأن كتب يقول: «ما يجب أن يُقدر في حياة كل إنسان، ليس عدد السنوات التي عاشها، بل ما أحدثه من فرق في حياة الآخرين. وهذا الأمر يحدد مغزى الحياة التي نعيشها». وفي الكلمة التي ألقاها صديقه الأسقف ديزموند توتو أثناء احتفالات التأبين، ما يشير الى هذه الصفات. قال: «علمنا كيف نعيش معاً، ونؤمن بأنفسنا، وبالآخرين أيضاً. خرج من السجن شخصاً أعظم بكثير مما كان لدى دخوله... شخصاً يتحلى برحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه». وحول تأثيره العالمي، قال الرئيس باراك اوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة: «لقد خسرنا أحد الرجال الأكثر تأثيراً والأكثر شجاعة على هذه الأرض. وبفضل عزة نفسه وإرادته الصلبة للتضحية بحريته من أجل حرية الآخرين، قام بتغيير جنوب افريقيا، وأثّر فينا جميعاً». ووصفه رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون بأنه «بطل عصرنا». في حين قال عنه وزير خارجية ايران محمد جواد ظريف: «إنه شكّل إلهاماً للإنسانية بسبب شجاعته الاستثنائية». واعتبره رئيس وزراء الهند مثل المهاتما غاندي، علماً أن غاندي ناضل ولم يحكم. ويعترف مانديلا بأن ثورة الجزائر علمته الكثير من فنون الكرّ والفرّ. وكانت هذه العلاقة قد تمت وترسخت خلال الزيارات المتكررة التي قام بها عام 1961 عقب تأسيس المؤتمر الوطني الافريقي. وحدث عندما تولى الرئيس الجزائري الحالي عبدالعزيز بوتفليقة رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفته وزيراً للخارجية عام 1974، أن اقترح طرد وفد جنوب افريقيا. واللافت أن الوفد الجديد لم يلتحق بمركزه السابق إلا بعد انتهاء نظام التمييز العنصري (الابارثايد). ولما خرج مانديلا من السجن، كانت الجزائر أول دولة يزورها كنوع من الاعتراف بالجميل. ومن الطبيعي أن يكون اهتمامه بالقضية الجزائرية مساوياً لاهتمامه بالقضية الفلسطينية. وفي لقائه مع ياسر عرفات، أبلغه أن الشعب الفلسطيني سيظل موضع اهتمامه الى أن يُكلل نضاله بالنصر. وعندما أطل «الربيع العربي» على تونس ومصر، وجّه نيلسون مانديلا رسالة مفتوحة الى الشعوب العربية قال فيها: «إن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم. فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي». وبعد تقديم النصائح السياسية اعتماداً على تجربته المرّة، أوصى الثوار بالمسامحة، وبرفض عقلية الثأر والانتقام. كما شجع الإكثار من طمأنة الناس والتسامي على الجراح النازفة، لأن الوطن أهم من كل شيء آخر. وهو يستحق التضحيات السابقة واللاحقة. بقي أن نذكر أن بطل فيلم «مسيرتي الطويلة الى الحرية»، الممثل آلبا، دخل الى زنزانة السجن الانفرادي لمانديلا بهدف اختبار تلك التجربة ولو لليلة واحدة. واكتشف أن طولها لا يزيد على المترين، بدليل أن السجين كان يحسّ بأصابع رجليه على الجدار البارد. وبسبب برودة الطقس في غالبية الأشهر، كان يستخدم الليف الأبيض كسرير لئلا يُضطر الى النوم على الأرض الاسمنتية الباردة. وفي داخل تلك الزنزانة المضاءة عبر كوة صغيرة تقع في أعلى المكان، شاهد الفنجان المعدني الذي كان يستعمله لشرب الماء. كما شاهد طاسة الاغتسال الصدئة. ولما أعطاه الدليل رقم هاتفه الجوال، شعر برهبة الموقع، خصوصاً عندما أخبره أن المكان محاط بالأسلاك الشائكة، تماماً مثلما كان في زمن سجناء النظام العنصري. ويعترف الممثل آلبا بأنه لم ينم تلك الليلة، علماً أنه كان متأكداً من وجود الحراس والدليل خارج الزنزانة... في حال اضطر الى الخروج. وهذا ما فعله قبل انبلاج الفجر، لأن شبح «ماديبا» لم يغادر ذاكرته وهو يحاول أن ينام فوق الاسمنت البارد، ويسترجع أوجاعاً مضنية ظلت تؤلم بطله مدة 27 سنة. والثابت أن المبادئ التي تركتها الثورة الفرنسية من حرية وعدالة ومساواة، قد زاد عليها مانديلا مبدأ الشراكة بين السود والبيض... بين الضعيف والقوي... بين الغني والفقير... بين المضطَهَد والمضطَهِد. وعليه يرى كثيرون أن «ماديبا» يستحق لقب شخصية القرن العشرين كونه يعكس صورة العصر. كما تعكس تضحيته بربع قرن من عمره، إصراره على إلغاء التفرقة العنصرية. لذلك شدد الخطباء في احتفالات وداعه على القول إن شجاعته غيّرت وجه العالم. من هنا مطالبتهم بضرورة استلهام أعماله من أجل الأجيال المقبلة... ومن أجل الأماكن التي تتطلب الإصلاح والمساواة. وربما كان الرئيس الأبيض فريدريك دوكليرك، الذي أفرَج عنه عام 1990، أول من اقتنع بدعوته. لذلك مُنِحَت جائزة نوبل للسلام للإثنين معاً. وفي أول تكريم من نوعه لمسيرته الحافلة بالمآثر والمشرفة من أجل الحرية والكرامة الانسانية، أعلنت الأممالمتحدة يوم ميلاد نيلسون مانديلا يوماً عالمياً. في هذا السياق، ظهرت في افريقيا شخصية سياسية رشحتها الصحف لدور مماثل للدور الذي كان يلعبه مانديلا في جنوب افريقيا. أي دور المشارك للأقلية البيضاء... والمناهض للنظام العنصري. وكان روبرت موغابي في سنوات النضال يتحلى بشخصية مختلفة عن الشخصية التي أفرزتها السلطة بعد وصوله الى سدة الرئاسة. باشر موغابي عمله كمعلم تلاميذ ابتدائي عام 1941 في كينيا. ثم عاد الى بلاده لينضم الى صفوف المقاومة عام 1960، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة الأبيض إيان سميث الى اعتقاله. وبعد محاكمة صوَرية زجّه في السجن. وقد خرج لينعم بالاستقلال عقب تحرر كامل القارة الافريقية. في ربيع عام 1984 كنت أقوم بجولة على بعض الدول الافريقية زرت خلالها الصومالوكينياوزيمبابوي. وحملت الى الرئيس موغابي بعض الأسئلة المتعلقة بتململ المعارضة من الطريقة التي استخدمها لإقصاء منافسيه. وأذكر أنه كان مصاباً بزكام حاد، وأنه كان يُسعف صوته المبحوح بتناول حبوب «ستربسيل». قال إن الأزمة الاقتصادية مفتلعة، وإن الأقلية البيضاء ما زالت تعمل بتوجيهات رئيس الحكومة السابق إيان سميث. سألته: ولكن الصحف تتحدث عن هرب مليوني شخص الى جنوب افريقيا، بينهم عدد كبير من الأطباء والمحامين الذين ينافسون عمال التنظيفات في جوهانسبرغ. وانفعل وهو يدافع عن موقفه بالقول: أنا لا أنكر أن الحضور المؤثر للبيض عاد ينشط بقوة في الدول الافريقية، وخصوصاً في زيمبابوي التي تحكّم باقتصادها أحفاد رودس بنسبة سبعين في المئة. ولكن قرار إقصاء الزعيم الأبيض إيان سميث قد خفف من هيمنة العنصر الأبيض. وقلت له: ولكن إيان سميث بقي ناشطاً في البرلمان! ورفع يديه في الهواء مستغرباً وعلق: طبعاً. وبفضل الديموقراطية التي وفرتُها ل 250 ألف أبيض يتحكمون بالوضع الزراعي الذي يُعيل سبعة ملايين أسود. ثم تناول حبة «ستربسيل» لإسعاف صوته وقال: يجب أن تعلم أن إيان سميث كان أسوأ مَثل لحكم الجنس الأبيض. لقد تدخل مع المحكمة لإدخالي الى السجن لأسباب غير مقنعة. وفي عهده توفي ولدي الصغير إثر تناوله جرعات من مبيد الحشرات. وكتبت رسالة استرحام الى سميث أطلب فيها السماح لي بمبارحة سجني برفقة حراسي كي ألقي على نجلي نظرات الوداع، ثم أعود الى زنزانتي. وكان جوابه سلبياً. عندها طلبت من زوجتي أن تبرق الى زعماء دول عدم الانحياز، الذين كنت متعاطفاً مع نهجهم، على أمل أن يتدخلوا مع رئيس الحكومة. وبالفعل أبرق كل من نهرو وتيتو وعبدالناصر الى سميث، فلم يتجاوب، وظل على عناده. وتوقف فجأة ليسألني بعبارة مخضبة بدموعه: لو كنت مكاني، ماذا تراك تفعل؟ ومن دون انتباه، أجبته بعفوية: كنت أجزّ عنقه! وجاء رد فعله مفاجئاً عندما قال: هذا خطأ. عندما تكون حاكماً لا يمكنك أن تحب وتكره كسائر الناس. عندما رجعتُ من هراري الى لندن نشرت حديث موغابي في صحف ومجلات عدة بينها مجلة «المستقبل» التي كانت تصدر في باريس. ومنذ ذلك الحين، وأنا أتابع نشاط موغابي، وأرى عمق الانزلاق الذي شجعه على اختطاف رئاسة الجمهورية، والاعتراف أمام رئيس جمهورية جنوب افريقيا السابق، ثابو مبيكي، بأن زيمبابوي أصبحت ملكه، وأن كل ما يُقال عن حكمه ليس أكثر من ترهات يفتعلها البيض. ومع هذا الانزلاق المتواصل، يتساءل الأفارقة عما إذا كان سيبقى في زيمبابوي مواطنون سود... أم أن سياسة الحقد والانتقام ستشجعهم على الهرب الى وطن المشاركة الذي صنعه مانديلا... * كاتب وصحافي لبناني