على مدار يومين في مدينة الرياض كنتُ ضمن الملتفين حول طاولة الحوار الوطني لمناقشة "التصنيفات الفكرية في الخطاب الثقافي السعودي"، بتنظيم من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ودون شك إن هذه القضية من أكثر ما نشهده سخونة في حياتنا الاجتماعية حاليا! وبواقعية أقولها، قد يُهيأ لبعضهم أننا كسعوديين وسعوديات يجب أن نشبه بعضنا بعضا في كل تفاصيلنا الكبيرة والصغيرة!؟ فنحن نشبه بعضنا بعضا في الشارع، الثوب الأبيض للرجال، والعباءة للنساء، بل حتى في هندسة منازلنا وطريقة معاشنا والمدن التي نسافر لها واحدة، والمهندسون والخياطون والمسوقون لا يتعبون كثيرا معنا، نتيجة للتفكير النمطي الذي تمّ استمداده من التشابه الشكلي وتعزيزه بظلّ تفكير أحادي في خطاب الصحوة الذي بقي متاحا خلال ثلاثين سنة قبل السنوات العشر الماضية، وهذه النمطية الأحادية جعلت بعضهم يعتادون على رؤية أننا نسخ مكررة لبعضنا نكاد نصبح معها أشباحا تلاحق بعضها، ومن يختلف يتم إقصاؤه من العائلة الأكبر "السعوديون"! لهذا المعيار الشكلي مع الأسف، ظنّ بعضهم أنه يجب أن تشبه تفكيره وتركيبته الاجتماعية مثل ما تشبه زيه وبيته، وإلا فأنت شاذ اجتماعيا، وتتم ممارسة التمييز ضدك بلغة إقصائية وتحريضية مثل "سعودي أصلي" وآخر "غير أصلي"! ثم تمددت الظاهرة من النطاق الاجتماعي إلى الفكري والتي باتت الشغل الشاغل لدى الأكثرية مع كل جدل حول قضية تنموية اجتماعية، يتم فيها توزيع الألقاب بالمجان وتداول مصطلحات، جُل من يستخدمها يجهل أبسط مفاهيمها، هذا الجهل تم تعزيزه نتيجة عدم الاعتراف أساسا بالتصنيف الفكري في مجتمعنا مما ساعد على تشويهها لإقصائها، وهذا خطأ كبير نرتكبه في حق التنوع الفكري الذي هو سبيل الثراء المعرفي، خاصة وقد أساء لهذه التصنيفات ترديد الببغاوات هنا وهناك بجهل، فهذا "ليبرالي"؛ أي ملحد، وذاك "إسلامي"؛ أي متشدد، وثالث "ليبروجامي"؛ منافق، وآخر "إخونجي" و"جامي"، و"سروري"، والسلفي بات أصنافا وألوانا، فمن "سلفي مستنير" إلى "سلفي جهادي" إلى "سلفي علمي"، وهكذا مما يتم التقاطه من نخب نصفهم يُطلقها من قبيل "الشخصنة"، مطعمة بميولهم الأيديولوجية السطحية والمسطحة! هكذا خرج التصنيف الفكري عن مساره كمنهج علمي يؤدي إلى التنوع الفكري المقبول في أي مجتمع إنساني قائم على التعددية المعرفية، وبات توظيفه للتحريض وكأنها اتهامات إدانة، بهدف التشويه والإقصاء والتجريح والتكفير والتفسيق، والمشهد الساخر الكاريكاتيري أن يتم تداول كل هذه المصطلحات كألقاب أمامك على طبق من الجهل المعرفي! فلا تعرف هل تضحك أم تبكي؟! حين تطالعها في مواقع التواصل الاجتماعي والمجالس والمقاهي، وربما بسبب قضية قيادة المرأة للسيارة الأكثر جدلا في الأيام السابقة، تم توزيع الألقاب والتصنيفات في قوالب شخصنة مقيتة وبالمجان "واللي ما يشتري يتفرج"، كما يقولون! وبصراحة، أستغرب الاستياء من الانتماء للتصنيفات الفكرية، إذ نحتاج الاعتراف بها تمهيدا لوضعها في مكانها موضوعيا، كونها واقعية مع إصدار قانون يُجرم الإساءة في استخدامها بقصد التشويه والتكفير والإيذاء، فليست مشكلة أن يكون أحدهم ليبراليا أو راديكاليا أو غير ذلك! لأنها ليست اتهامات إدانة بل توجهات فكرية! ونبقى جميعنا سعوديين مسلمين، نختلف كيفما نشاء فكريا، بشرط أن نتفق على احترام اختلافنا وانتمائنا الأكبر "الوطن".