لا أظن أن ثمة مؤسسة حكومية تعرضت لحركة نقدية أكثر من المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وذلك عبر مئات المقالات والتحقيقات الصحفية والبرامج المتلفزة الحوارية ونحوها، وما ذلك إلا لقناعة الأكثرية بوجود تخبطات شديدة في هذه المؤسسة التي يُنفق عليها بسخاء شديد.. وقد شاركتُ في هذه الحركة النقدية منذ بضع سنوات، ولا سيما أنني عملت بتلك المؤسسة 16 عاماً، ثم أمسكت عن ذلك لكثرة الطروحات والمعالجات النقدية لهذه المؤسسة التي تتقن "فن التخبط الإستراتيجي" في كثير من أعمالها، إلا أنني أجدني اليوم مضطراً لكتابة هذا المقال من باب تبرئة الذمة، وبخاصة أننا نمر في مرحلة نحن بأمسّ الحاجة فيها إلى استيعاب الطاقات الشابة من الجنسين ضمن برنامج تأهيلي إستراتيجي، يسفر عن إنتاج كفاءات وطنية تفلح في الحصول على وظائف بطرق تنافسية وجدارات حقيقية، ليس ذلك فحسب بل تفلح في إقامة مشاريع صغيرة ومتوسطة تسهم بدورها في عمليات خلق آلاف الوظائف للشباب والشابات السعوديين. هنالك مظاهر عديدة للتخبط الإستراتيجي في الرؤية والأداء والإنتاجية للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، غير أنني وطلباً للاختصار أعرض أهمها مع التركيز على تلك ذات التأثير على المستقبل في هذه المؤسسة، وذلك كما يلي: 1 - أكثر العاملين في المؤسسة لا يعرفون رؤية المؤسسة ولا إلى أين تتجه بخططها وبرامجها، بل هم يفاجؤون دوماً بالتغييرات التي لا يشتركون أصلاً في صناعتها ولا يدركون مبرراتها ولا حيثياتها، وقد حدَّثني بذلك أكثر من قيادي في تلك المؤسسة، فضلاً عن عشرات العاملين الذين يؤكدون ذلك الأمر. 2 - التغيير المستمر في جوانب عديدة من البرامج التعليمية والتدريبية، لا بطريقة ديناميكية تواكب التغيرات في السوق وتستجيب لاحتياجاته، وإنما بطرق مربكة للجميع، دون أن تسهم في تحسين جودة العمليات أو المخرجات. 3 - تسريح الطاقات السعودية عالية التأهيل، حيث تم تسريح أكثر من 100 من حملة الدكتوراه في تخصصات متنوعة وعشرات من حملة الماجستير، بحجة عدم الحاجة إليهم في فترات سابقة. 4 - وبعد أن تمت عملية التسريح خلال السنوات الماضية الخمس، تأتي المؤسسة لتتعاقد مع شركات أجنبية لكي تدير كلياتنا التقنية، حيث أبرمت عقوداً مع شركات من دول أجنبية عديدة لتشرف على 50 كلية تقنية بطريقة تدريجية وفق ما يُسمى ب "الخطة الإستراتيجية للمؤسسة". 5 - عزوف أكثرية الطلبة عن الالتحاق بالكليات التقنية، وهنالك انخفاض شديد في أعداد الطلبة في كثير من تلك الكليات في الفترة السابقة، والإحصائيات تكشف هذا الأمر وتجليه بكل وضوح. 6 - عدم الجودة في خلق بيئة عمل محفزة مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات "السخط الوظيفي" (كان بإمكاني التعبير بانخفاض مستويات الرضا الوظيفي!)، وانخفاض مستويات الولاء التنظيمي، وقد ثبت ذلك عندي ببحث علمي أجريته قبل عدة سنوات. أما أهم أسباب هذا التخبط فيمكن إرجاعها بالدرجة الأولى إلى وجود مركزية شديدة في اتخاذ القرار، فمن يتخذ القرارات الإستراتيجية في المؤسسة ربما لا يتجاوزون ثلاثة أشخاص أو أربعة، مع عدم اصطباغ قراراتهم بالبعد الإستراتيجي وعدم استيفاء جوانبها الفنية، الأمر الذي يؤدي بهم إلى اتخاذ قرارات مستعجلة ومبتسرة ومكلفة جداً على الموازنة العامة دون نتائج جيدة أو مبررة علمياً أو إستراتيجياً، فمثلاً ماذا عن ما أسمته المؤسسة قبل عدة سنوات ب "التدريب التقني العسكري"؟.. وماذا عن "التدريب المشترك"؟ وهي برامج كلفت مئات الملايين دون أن تحقق الأهداف المتوخاة كما يجب.. وقبل عدة أيام تعلن المؤسسة عبر محافظها الأخ الدكتور علي الغفيص أن المؤسسة قد استعدت ببرامج تأهيل متنوعة لكي تعيد تأهيل الشباب السعودي بعد حملة ترحيل المخالفين من الأجانب، في قالب دعائي لا أكثر، والتاريخ والحاضر يشهدان باصطباغ هذه المؤسسة بدعائية مفرطة (بروبوغاندا)! قد يقول قائل إن الحكم بالتخبط الإستراتيجي قاس، ولهذا فإنني مجبر لتوضيح أن هذا الحكم ليس صادراً مني على المؤسسة بل هو صادر منها على نفسها، ويمكن توضيح ذلك عبر محاور ومسائل عديدة، ولكنني سأركز على مسألة الشراكات الجديدة، فهي قاصمة ظهر، وتشف عن أقدار من العشوائية والتخبط في صناعة القرار. نعم، المؤسسة تحكم على نفسها بالفشل طيلة العقود الثلاثة الماضية، إذ كيف تُقدِم على تسريح عشرات "العقول الوطنية" المميزة في تخصصات عديدة ثم تجلب "عقولاً أجنبية" كي تدير كلياتها التقنية في هذه المرحلة؟ هل يعقل أن تُقدِم المؤسسة بعد أكثر من ثلاثة عقود على الارتهان والسقوط بأيدي الأجانب، بعد أن ظلت الكليات والمعاهد تُدار من قِبل كفاءات وطنية طيلة الفترات الماضية؟.. لو كان الأمر بالعكس أي لو أن المؤسسة استعانت بالأجانب في بداياتها ثم عمدت إلى تأهيل العقول الوطنية لقلنا بأن هذا يُمثّل فكراً إستراتيجياً بتأهيل الكفاءات، أما أن يحدث العكس، أي أن يتم استنبات الأجانب في مؤسساتنا التعليمية بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة، فقطعاً إن هذا يُمثّل حكماً من المؤسسة على نفسها بالتخبط والارتجالية في التفكير والإستراتيجية وصناعة القرار، وكأنها قد اكتشفت للتو عدم صلاحية من قامت هي بتأهليهم في فترة تجاوزت ثلاثة عقود؟.. مع العلم بأن أكثر الكفاءات التي سُرِّحت وانتقلت للجامعات السعودية قد تقلدت مناصب قيادية رفيعة وأسهمت في تطوير تلك الجامعات، ولدي عشرات الأمثلة والنماذج، فلماذا فشلت المؤسسة في استيعابهم والإفادة منهم في قيادة الكليات التقنية وتطويرها؟ ألا تعرف المؤسسة بأن الدول تحرص بشكل كبير على التخلص من "التبعية التنموية" بكافة أشكالها، وذلك لآثارها المدمرة على "الحركة التنموية الوطنية"؟.. ألا يُعد اللجوء إلى هذه الشركات الأجنبية بعد هذه الفترة المتطاولة في عملية التأهيل للسعوديين نوعاً من السقوط في تلك التبعية في قطاع يُعد من أهم القطاعات الداعمة لأي تنمية حقيقية في أي بلد وهو قطاع التعليم التقني والمهني؟.. كم سيمكث هؤلاء الخبراء الأجانب، وكيف ستتم عملية الإفادة من خبراتهم في تأهيل الكفاءات السعودية؟.. وهل سيقدم الأجانب خبراتهم الحقيقية أم أنهم سيتركون رتوشاً لا تغني من جوع تقني ولا تسمن من عوز مهني؟.. الأجانب يدركون أن السعودية مؤهلة لمنافستهم في القطاعات التقنية والمهنية إن هي حققت قفزة تنموية حقيقية في تلك القطاعات فكيف يسلمونها مفاتيح منافستهم في السوق الذي لا يرحم الضعفاء ولا المتخبطين؟.. وكيف سيتواصل العاملون السعوديون في الكليات التقنية مع "المسؤولين الأجانب" التي سيشرفون عليها؟.. هل ستتخلص المؤسسة من العاملين الذين لا يتقنون الإنجليزية؟.. أم أنها ستجلب مترجمين؟.. أم أنها ستعلِّم الأجانب كي يتحدثوا العربية؟ وأسئلة كثيرة وكثيرة. في الحقيقة، أشعر بمرارة قاتلة من جراء هذا التخبط الإستراتيجي في المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وأرى ضرورة النظر لما يجري في هذه المؤسسة ومعالجته بطريقة جذرية، تفلح في استيعاب الأعداد المتزايدة من العناصر الشابة وحسن تأهيلهم بما يجعلهم أصولاً منتجة في بلدهم، لا أعداداً تضغط للحصول على الإعانات الحكومية أو وظائف هامشية، هنا وهناك، وبخاصة أن الاقتصاد الوطني لا يتحمّل مزيداً من تلك الإعانات في مرحلة يُفترض أن ننفق أكثر على مصادر تنويع الاقتصاد لحتمية خروجه من نسق "الاقتصاد الريعي"، لا على مجرد إعانات أو "ترقيعات تنموية" نتحمّلها لفشل هذه المؤسسة أو تلك، ونحن نعلم بأن تنويع الاقتصاد أضحى ضرورة حتمية، بل إنني أقول بأن من المفترض أن تكون المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني رافعة كبيرة في تنويع اقتصادنا الوطني لو عملت بطريقة صحيحة، لا أن تكون عبئاً عليه، كما هي الآن. هذا رأيي بكل تجرد وشفافية. اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.