سؤال أحسبُ أنه يساورُ عقول كثيرٍ من المتطلعين لعودة المبتعث إلى أرض الوطن بشوق حار تتقاسمه قلوب أبناء المجتمع والحكومة الرشيدة على سواء،فأمَّا المجتمع فهو مشتاق إلى عودتك أيها المبتعث ليتعلم منك ما تلقيته من معارف وعلوم ،وما أحطت به من ثقافة جديدة اكتسبتها من تلك البلاد التي استوطنتها طيلة بقائك في مهجر الغربة ,وأما الحكومة الرشيدة فشوقها إلى عودتك لا يقل عن شوق المجتمع فهي ترى فيك حلمها الذي من أجله استثمرت فيك الملايين متمنيةً أن تكون رُباناً لدَّفة التقدم والازدهار في البلاد بما تحمل من مشاريع تنموية يرقى بها إلى مصاف الدول الأكثر تقدماً في الحياة. أيها المبتعث الكريم هناك جموع غفيرة تنتظرك فلا تخيب آمالها ولاتبدد أحلامها على أرض الضياع فنفوسهم تؤمل فيك الأمل الكبير فأٌرِهم مدى قدرتك على تحقيق تطلعاتهم وأثبت لهم بأنك في مستوى طموحهم ولكن قبل ذلك ضع في عين اعتبارك بأن الوصول إلى مستوى تطلعات المجتمع وآماله ليست أمانيّ بل هي أفعال تترجم على أرض الواقع تبدأ بإدراكك التام أن بقاءك في الغربة للدراسة محدود بمدة زمنية ثم بعد انقضائها حتما ستعود إلى وطنك، ثم تنتقل من مرحلة الإدراك إلى حقبة التأمل وهي ان تمنح عقلك فرصة من الوقت ليبحر في ذاتك فاتحاً نوافذ الأسئلة الجريئة على ذاتك علّ شمس الطموح أن تشرق فيها لتبدد ظلمة الانكفاء على نفسك والتي ربما جثمت عليها فأفقدتها خارطة الطريق وأبقتك في التيه حول نفسك تراوح نعم تقدم بجرأة وسل نفسك كيف هي حالك إبّان فترة الابتعاث و قطار الزمن يعدو بها إلى الأمام نحو محطة النهاية هل تشعر بتطور ذاتي مع مرور الأيام يجاري سرعة قطار الزمن أم أنت في غفوة لا تشعر بها إلا في آخر محطة وأنت تترجل من القطار فتصدم بأن آمالك و أهدافك قد أصبحت سراباً بِقِيْعةً ؟ سل نفسك وقل لها هل ملأتُ جعبتي بأصناف العلوم والمعارف و التي سأبهر بها أبناء مجتمعي أم لا؟ هل رصدتُ الظواهر العلمية والاجتماعية والاقتصادية الإيجابية التي تفوَّق فيها الغرب ثم قمت بترجمة تلك الظواهر حرفياً على صحائف من ورق لنقلها إلى المسؤولين في بلدي من أجل استثمارها وتطبيقها أم لا ؟ هل كنتُ ناجحاً في علاقاتي مع أبناء البلد التي ابتعثت إليها فأحبوا ديني وحضارتي لأني كنت سفيرا ناجحا لها أم لا ؟ طوفان من الأسئلة ينبغي أن تدور في خَلَدك وتتحرك معها كل المشاعر التي تسكن حنايا قلبك ، وتشاركها مَلَكاتُ التفكير التي تدبُّ في عقلك علّ وعسى أن يكون قارب الاسئلة التي أبحرت به في ذاتك يوصلك إلى شطآن الأمان لتترجل منه نحو الخطوات العملية التي توصلك بإذن الله في نهاية المطاف لمعانقة طموحك وأهدافك التي من أجلها ركبت المركب الخشن وقطعت الفيافي والقفار آملاً في تحقيقها فأولى تلك الخطوات العملية هي : أولاً: الثقة بالذات وهي مرتكز مهم في شخصية المبتعث، وحافز قوي لنجاحه في تخطي المصاعب والوصول إلى غايته.فعلى سبيل المثال لا الحصر الطالب الذي في مرحلة تعلم اللغة الانجليزية لابد أن يكون لديه ثقة بذاته تدفعه تلك الثقة إلى الانطلاق لبناء علاقات مع محيطه الاجتماعي لتطوير لغته ، واكتساب ثقافة جديدة تزيد من رصيد تجربته في الحياة وتسعفه لفهم خصائص ذلك المجتمع الجديد الذي يعيش عاداته وتقاليده وطقوسه المختلفة. وطالب الدراسات العليا لابد من الثقة بذاته ليحفزه على النقاش العلمي البنّاء أثناء المحاضرات ، أو الحوار مع كل دكتور أو باحث متخصص في مجال موضوعه الذي يبحث فيه ليستفيد من أفكاره وأطروحاته ويكون بذلك قد قطف وروداً من واحات عقولهم إنْ غرسها ووظفها في مضمار بحثه بحنكة وإبداع حتما ستكفل له حق التميز في حقله الذي يبحث فيه ، ولتعلم أخي المبتعث علماً لا يخالطهُ شكٌ أن ثمرة الثقة بالذات تتوج ببناء شخصيتك علمياً ونفسياً وعقليا لتجعل منك عامل تقدم ورقيّ ، ومحورا أساسي من محاور النهضة يزداد الوطن به شموخاً والأمة علواً بما تضعه من لبنات في أسوار مجدها .فلا تستصغرنَّ ذاتك ولا تُقزًّم طموح الإباء في داخلك ويسرني أن استشهد بكلام كاللؤلؤ المكنون لشيخ المربين علي الطنطاوي رحمه الله رحمة واسعة عندما همس في أُذن مبتعث قائلاً له " لاتقل: ما يصنع طالب مثلي ضعيف في أمة قوية؟ فإن الأندلس المسلمة كانت بالنسبة لعصرها أقوى، وكان روادها من طلاب الفرنجة أضعف، ولكنهم استطاعوا – على ضعفهم – أن يصنعوا هذه القوة التي تعجب بها أنت، ويذوب فيها غيرك.إن الدهر يا أخي دولاب، والأيام دول. وإنّ في الشرق أدمغة؛ وفي الشرق سواعد، وفي الشرق مال، ولكن ينقص الشرق العلم فاحمله أنت وأصحابك، وعودوا إلى الشرق شرقيين معتزين بشرقيتكم الخيرة العادلة، كما يعتز الغربيون بغربيتهم الظالمة الطاغية.واعلموا أنّ مهمتكم ليست في ورقة تنالونها، قد تنال بالغش والاستجداء والسرق ولكن مهمتكم أمة تُحْيُونها" ثانياً: الشعور بالرضا وأنت تمارس مهنة التحصيل العلمي والبحث في مقر بعثتك ولتكن هناك حوافز تبعث على السرور في مهجتك و تستنهض كوامن الطاقة لديك ولعل من أهم تلك الحوافز شعورك بأن عملية البحث عن المعلومة واكتشافها تنور مساحات الجهل في عقلك وهذا في حد ذاته حافز مشجع يجعلك تغوص في أعماق القراءة ويدفعك للمثابرة من أجل التحصيل العلمي وهو عامل يقود لعامل آخر لايقل عنه أهمية ألا وهو نقل تلك المعرفة التي ظفرت بها وأتقنتها إلى أبناء بلدك ليشاركوك لذة العلم ونوره الذي أسبغ عليك وليكن قول الشاعر مشعلا لك تستشعر من ورائه لذة مشاركة الآخرين متعة المعرفة التي توصلت إليها حيث يقول : فلا نزلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا واعلم يا رعاك الله أنك تتلقى المعرفة عبر قنوات علمية متعددة منها على سبيل المثال المحاضرات الجامعية ، و الدورات التدريبية و القراءة المنهجية الأكاديمية فكن ذا تفكير ناقد للمعرفة لا مستهلكاً لها دون وعي وتبصر بل ممحص ومغربل لها لكي تبني رأياً مستقلاً يمثلك في ظل الاراء العلمية الكثيرة والكم المعرفي الكبير كما أن غربلة المعلومة قبل الاقتناع بها يحررك من الوقوع في زلات الآخرين وأخطائهم فهم بشر مثلك يتخلل إليهم النقص والخطأ في أطروحاتهم كما يحالفهم الصواب ويصيبون الحقيقة في بعض الأحايين. ثالثأ: المؤتمرات العلمية التي تعقد في دول شتى ويحضرها لفيفٌ من الباحثين ويُناقشُ فيها أبحاث علمية في كافة العلوم والتخصصات بهدف خدمة الإنسانية جمعاء .فحري بالمبتعث أن يقتنص فرص المشاركة في المؤتمرات العلمية لما تحتويه من فوائد علمية جليلة تلقي بظلالها على الباحث والبحث في آنٍ واحد فالورقة العلمية المقدمة من قبل المبتعث تخضع للفحص من قبل لجنة علمية متخصصة فلربما تستدرك في البحث مواطن ضعف أكاديمية قد غابت عن مشرفك أن ينبهك عليها، فهي فرصة سانحة أن تُكشفَ لك تلك الهفوات العلمية التي تضمنها بحثك ليتسنى لك تقويمها .ومن الفوائد السامية للمؤتمرات العلمية أنها تلعب دوراً كبيراً في بلورة شخصية المبتعث فتصقل مهاراته وتثريه علمياً وذلك عبر الحوارات العلمية التي تتضمنها برامجها وقد لاتكون تلك الحوارات أثناء إلقاء الأوراق العلمية بل تتجاوزها لتنبثق في اللقاءات الجانبية التي تحتضنها ردهات تلك المؤتمرات العلمية فهي تمثل بيئة علمية نقية ربما لا يجدها المبتعث في غيرها ، كما أن تلك الحوارات العلمية تساعد المبتعث على تجاوز العراقيل التي تواجهه في مسيرته البحثية فقد أثبتت الدراسات أن ما يربو على 70% من المشاكل والمصاعب التي يواجهها الباحث يأتي تجاوزها عبر الحوارات الهادفة والبناءة التي تثريها تلك اللقاءات العلمية. إضافة إلى ذلك فالمؤتمرات العلمية تساعد المبتعث على عقد علاقات علمية واجتماعية مع باحثين تربطهم أواصر التخصص العلمي فتسمتر العلاقة بين الباحثين طيلة مشوار البحث يستنير المبتعث خلال تلك الفترة بأفكارهم ،ويستعين بهم بعد الله في خبراتهم لتجاوز العقبات التي ربما تصادفه في بحثه ولا تتأتى تلك الفرص إلا في مقابلتهم مباشرة في مثل تلك المؤتمرات العلمية . وحديثنا حول مزايا المؤتمرات العلمية ذو شجون ولكن يكفيك من القلادة ما أحاط الجيد. رابعاً :الدورات التدريبية فلها فوائد جليلة في بناء شخصية المبتعث حيث يجد فيها مالا يجده في غيرها من المؤسسات التعلمية فهي تمثل ركيزة رئيسة لرقي المبتعث نفسياً وعقلياً من خلال اكتشاف مواطن الضعف لديه ومعالجتها واكتشاف مواطن القوة والتميز لديه لاستغلالها بما يجر إليه من نفع ، كما أن الدورات التدريبية تنمي لدى المبتعث القدرة على التفاعل مع متغيرات العصر ومواكبة المستجدات التي تطرأ على البيئة المحيطة وهذا يدفعه لتجاوز الحواجز التي تقف عائقا أمام مسيرته الدراسية ، لذا فهي وسيلة مساعدة على تحقيق الطموح وهناك الكثير من الدورات المتنوعة في مضامينها ولكن تتحد في أهدافها وفوائدها كافن القيادة ،إدارة الوقت ، والتفكير الإبداعي ، الإثراء العلمي ،الذكاء العاطفي ،الذكاءات المتعددة ...الخ فجدير بالمبتعث أن يتلمس حاجاته التي يشعر بقصور فيها ليسدد ذلك القصور والضعف عبر تلك الدورات التدريبية فالولايات المتحدة المتحدة تنفق 15 مليون دولار على تنمية وتطوير القيادات لديها وما كان لها أن تبذل هذا السخاء على الدورات لو لم تشعر بدورها في تنمية كوادرها البشرية وارتفاع في انتاجهم وعطائهم والذي أثبتت الدراسات زيادته بنحو 3% سنويا. أخي المبتعث هذه بعض التجليات والأفكار التي عملت جاهداً أن أقولبها في هذه الكلمات ثم اسبكها في تلك العبارات أشعلتُ حروفها سُرجاً وهاجةً لتضيء دروبك في الغربة وذلك عرفاناً وتقديراً لكفاحك ومثابرتك في الحياة ،كما أنها تشرق إخلاصاً من رجل معايش لحال المبتعثين في غربتهم لا يستطيع أن يكف نفسه عن البوح بقضاياهم فهو يشدو بانجازاتهم ويأسى لآلامهم ،وما ذلك إلا لشعور الاعتزاز بانتمائه إليهم إنتماءً دينياً ووطنياً و يفخر قائلاً: قومي أولئك لا أبغي بهم بدلا ** من ذا يبدل بالروض الدياميما أصخ لتسمع عن قرب نشيجهم ** وقد تلوا في المحاريب الحواميما إن ينزلوا فكسوف الشمس مرتقب ** وقد ترى الليث في الغابات مكلوما بريطانيا جامعة هال تخصص :إدارة تربوية [email protected] Twitter @alsuiadi