مرة جديدة يثبت الإسلاميون، خصوصاً جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة في مصر وحركة «النهضة» في تونس، أنهم غير قادرين على الخروج من قمقم الأيديولوجيا وعلى الاستفادة من تجارب الماضي، أو أنهم غير راغبين في ذلك ما داموا قادرين على التمسك بالحكم. لا أحد يشكك بأن الجماعة و «النهضة» وصلا إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع التي أعطتهما الغالبية. لكنهما لم يفهما من هذا الانتداب الشعبي الذي جاء في ظروف غير طبيعية، وفي إطار مرحلة انتقالية تؤسس لطبيعة النظام المقبل بعد إطاحة السابق، سوى أنه شرّع لهما الحكم. ومن دون أي اعتبار للقوى الأخرى في البلاد، بتكويناتها وتلويناتها المختلفة، ومن دون اعتبار أن المرحلة المقبلة هي مرحلة تأسيس لنظام لا يمكنه أن يتمتع بأي نوع من الشرعية إذا لم يضمن أساساً عدم العودة، بأي شكل كان، إلى أي نوع من أنواع ممارسات الديكتاتورية السابقة. هذا هو الشرط الأساسي لإقامة نظام جديد، والذي يتضمن في ذاته أوسع الاعتراف بالقوى الاخرى التي ساهمت في إسقاط النظام السابق، وأيضا مشاركة كل القوى المدنية والديموقراطية في المرحلة الانتقالية وتأسيس النظام الجديد. لكن الإسلاميين، سواء الحاكمين في القاهرة أو في تونس، نسفوا منذ اليوم الأول هذا الشرط الأساسي. لا بل اعتبروا أن خصومتهم السياسية ينبغي أن تنصب على القوى المدنية والديموقراطية والليبرالية. ومع استحضار تهمة «الفلول» لوصم بعض هذه القوى واستبعادها من المشاركة في المرحلة الانتقالية، راح الإسلاميون يزايدون في «أسلمة» الدستور والقوانين، وصولاً إلى «أسلمة» الدولة ومؤسساتها، معتبرين أن ذلك هو الطريق من أجل بقائهم في الحكم واستمرارهم فيه. وفي هذه «الأسلمة»، والمزايدة فيها، افترضوا أنهم يمكنهم أن يستقطبوا حلفاء من الإسلاميين الآخرين، من سلفيين وجهاديين، وأن يكسبوا مزيداً من الأصوات في صناديق الاقتراع، يوظفونه في تمسكهم بالحكم، وإبعاد الآخرين. في هذه السيرورة التي أرادها الإسلاميون للحكم، زادت الهوة بينهم وبين المكونات المدنية والديموقراطية في المجتمع، والتي وجدت نفسها في دائرة التهميش نفسها التي دفعها إليها النظام السابق. وذلك ليس لمجرد وجودها في المعارضة وعدم رغبة الحكم في مشاركتها بالمرحلة التأسيسية، وإنما أيضاً لأن الإسلاميين سعوا إلى نظام جديد لا يتسع لسواهم، عبر سيطرتهم كغالبية على آليات التشريع في المرحلة الانتقالية. في موازاة ذلك، ربما ما هو أخطر من ذلك، أن الإسلاميين «شجعوا» بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خصوصاً عبر مواقفهم وتحالفاتهم عشية الانتخابات، قوى إسلامية متشددة راحت هي الأخرى تمارس الإقصاء في حق القوى المدنية أولاً ومن ثم الحكم الجديد الذي ليس «إسلامياً» بما يكفي في نظرها. هكذا نرى أن حوادث عنف قد تكون متشابهة تتكرر في مصر وتونس، من اغتيالات واستهداف قوى أمن. ويتكرر أيضاً الكشف عن خلايا إرهابية مرتبطة ب «القاعدة». أي أن أسلوب إدارة الحكم، عبر استبعاد القوى المدنية والتقرب من الأصوليين، أدى في النهاية إلى انقلاب السحر على الساحر.... هذا ما حصل مع حكم «جبهة التحرير» الذي قضى على المجتمع المدني، فلم يبق أمامه سوى الإسلاميين الذين قاتلوه قبل أن يتقاتلوا في ما بينهم عبر «جبهة الإنقاذ» و «الجماعة الإسلامية». وتكرر شيء مماثل مع الحكم الإسلامي في السودان، ومن ثم في اليمن مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي ذهب إلى حد لعب ورقة «القاعدة» ليمنع التغيير في بلاده. اليوم تواجه جماعة «الإخوان» في مصر عنف الجماعات الأصولية والمتشددة من قديمة ومتجددة. وبات هؤلاء يشكلون التحدي الأمني الأول لها، مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر على الشعارات التي رفعت خلال الثورة، وعلى الحد الأدنى المتبقي من الدورة الاقتصادية، والعودة إلى حكم ديكتاتوري بذريعة «التصدي للإرهابيين». والأمر نفسه يتكرر مع الجماعات المتشددة في تونس حيث راح قادة «النهضة» يعلنون «الحرب على الإرهاب». هكذا يعتمد «الإخوان» و «النهضة» الإجراءات الأمنية لمواجهة العنف، تماماً ما كانتا تأخذانه على حكمي حسني مبارك وزين العابدين بن علي... إنهما لم يتعلما شيئاً.