لا يمكن لمن سمع تهويل «العَرانين المُحَسَّدَة» ل «انقرائيتهم» إلا أن يسارع لاستنقاذ نفسه من الجهل بهذه المفردة «المهيبة» خاصة بعد أن أَكَّدت «العرانين» أن الجهل بها «عار»! وكانت نقطةُ البداية في استنقاذ نفسي من الجهل بهذه المفردة «العرانينية» البحثَ عنها وعما قيل فيها في المصادر الإنجليزية. ويمكن الاكتفاء هنا بما وجدتُه في مقال منشور في «ويكيبيديا» يعرض أبحاثا كثيرة عنها على مدى أكثر من مائة عام. وكان الأستاذ الدكتور الغذامي قد ادعى (في لقائه المتلفز، 2013/3/24م) أن «الانقرائية» مصطلح عربي مستقِرّ في دراسات الإعلام منذ ثلاثين عاما، وأنه ترجمة للكلمة الإنجليزية readability (التي نطقها الأستاذ الدكتور الغذامي مرارا في ذلك اللقاء على هيئة: readabolity)! ويتضح من مقال «ويكيبيديا» أن ل readability معاني مختلفة في الدراسات التربوية تتصل كلها بتصميم بعض المعايير والتقنيات التي يراد بها أن تكون النصوصُ التي تقدَّم للطلاب في المراحل الأولى من التعليم سهلةَ القراءة. وذلك، مثلا، باختيار مفردات مناسبة لحصيلتهم اللغوية وصياغة جُمَل يمكن لهم فهمها، إضافة إلى بعض التقنيات الخاصة بالأشكال والألوان والخطوط التي تقَّدم بها تلك النصوص. كما تَقترح بعضُ الأبحاث تطبيقَ تلك المعايير، لا على تصميم كتب القراءة في التعليم العام وحسب، بل على تأليف الكتب عموما أخْذا في الحسبان شرائحَ القراء المتوقَّعين لها. أما في الدراسات الإعلامية فيقول المقال إن هذا المفهوم يعني قياسَ قدراتِ القراء على قراءة الأخبار والمقالات التي تنشرها الصحف، واكتشافَ مدى انتشار الصحف باختبار قدرات القراء على قراءة بعض الأخبار التي يمكن أن تؤثِّر فيها بعضُ العوامل اللغوية والإخراجية. ويخلص المقال إلى أن قدرات القراء على القراءة لا تتوقف على التقنيات المقترَحة لإنتاج النص بل تأتي «نتيجة للتفاعل بين النص والقارئ. إذ تعتمد تلك القدرات، من جانب القارئ، على: معارِفه المسبَقة، ومهارته القرائية، واهتماماته، ودافعيته. أما على جانب النص فتتأثر بالمحتوى، والأسلوب، والتصميم، والتنظيم». وينتهي المقال إلى التحذير من أن الكتابة عموما تعتمد على أمور تتجاوز تطبيق بعض المعايير التي تُقترح لصياغة نص مُمكِنِ القراءة. ويشهد هذا كله بأن لهذه الكلمة في الإنجليزية معاني متعددة واستخدامات متعددة كذلك. أما في اللغة العربية فيعود تاريخ مصطلح «الانقرائية» إلى فترة أقدم من التاريخ الذي ذكره الأستاذ الدكتور الغذامي. ويبيِّن ذلك ما ذكره أحد الإعلاميين المصريين في مقال ساخر نُشر قريبا يروي فيه سخريته هو وزملاؤه من إصرار أحد المدرسين في كلية الإعلام بجامعة القاهرة سنة 1965م على استخدام «الانقرائية» بدلا من «المقروئية»! وتشهد الدراسات الإعلامية والتربوية العربية بأن حال «الانقرائية» في المجال العربي يشبه حال أصلها الإنجليزي من حيث دلالتها على مفاهيم مختلفة. كما تأتي ترجمةً لكلمات إنجليزية مختلفة. ويمكن الاكتفاء في الدلالة على ذلك بالنظر في ثلاثة أبحاث ومقال صحفي استُخدمتْ فيها «الانقرائية». فتبيِّن دراسةٌ أنجزها (مركز أسبار للاستشارات) بعنوان «الدراسات التأسيسية لصحيفة الوطن» أن معنى «الانقرائية» الانتشارُ. كما أشار إلى هذا المعنى تقريرٌ نشرتْه صحيفة «مرآة الجامعة» التي تصدر عن جامعة الإمام محمد بن سعود (1434/5/25ه) يتصل ببحث تقدم به أحد الأساتذة للترقية بعنوان «انقرائية الصحف السعودية المطبوعة والإلكترونية، تنافس أم تكامل: دراسة حالة لانقرائية صحيفة الجزيرة في مجتمع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الجدل القائم حول تأثير الإعلام الإلكتروني على الوسائل التقليدية.» ويترجم الدكتور حمزة بيت المال، أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود،Readability ب «المقروئية»، في دراسة بعنوان «قرائية الصحافة السعودية اليومية». وهي دراسة تهدف إلى: «معرفة وصف وتعريف الجمهور المحلى في المملكة العربية السعودية لمجموعة الصحف اليومية المحلية بالإضافة لصحف؛ الحياة، والشرق الأوسط، والاقتصادية». وهذا معنى قريب من معنى الانتشار الذي أشار إليه البحثان السابقان. أما الدكتور عثمان الصيني فيَستخدم، في مقال له عن القراءة، كلمةَ «الانقرائية» ترجمة لReadership ، ويترجم Readability ب»المقروئية» (الرياض، 3/2/2010م). ويبين هذا كلُّه عدمَ صحة ادعاءات الأستاذ الدكتور الغذامي كلِّها: فتاريخه لهذه الكلمة في المجال العربي ليس صحيحا، وادعاؤه وجودَ اتفاق على المقابل العربي لكلمة readability ليس صحيحا، وليس هناك اتفاق بين التربويين والإعلاميين العرب على استخدامها. والسؤال الآن هو: من أين جاء اشتقاق كلمة «الانقرائية»؟ ويمكن القول بأنها اشتُقت على هذه الصيغة نتيجةً لاختفاء قاعدة اشتقاق الفعل المبني للمجهول بتغيير الحركات الداخلية فيه (كَتَبَ: كُتِبَ) في اللهجات العربية الحضرية وشبه الحضرية منذ قرون. وقد عمَّمتْ تلك اللهجاتُ، نتيجة لاختفاء هذه القاعدة منها، صيغةَ «المُطاوَعة»: «انْفَعَل»، التي كانت مقصورة على كونها صيغة البناء للمجهول في الأفعال اللازمة والشبيهة باللازمة، لتُستخدَم لصياغة المبني للمجهول في الأفعال المتُعدِّية كذلك. ويُحتمل، لذلك، أن تكون «الانقرائية» اشتُقت أول الأمر في مصر التي اختفت من لهجتها قاعدةُ صياغة المبني للمجهول المألوفة في الفصحى. وليس غريبا أن يَشتَق بعضُ الإعلاميين أو التربويين مثلَ هذه الاشتقاقات العامية لافتقارهم إلى المعرفة الجيدة بالقوانين النحوية والصرفية التي تحكم اللغة العربية الفصحى. أما اللهجاتُ البدوية والريفية، وفي المملكة خاصة، فلاتزال قاعدةُ اشتقاق المبني للمجهول في الأفعال المتعدية بتغيير الحركات الداخلية فيها فاعِلَة. لذلك لا يعدو استخدام الإعلاميين والتربويين من غير المصريين و»العرانين» من متواضعي المعرفة اللغوية بالقوانين الصرفية للعربية الفصحى، ل «الانقرائية» أن يكون نتيجة لتتلمذهم على المصادر المصرية، أو ل «التميلح!» أو طلبا للإغراب. وأنا لا أعترض على حرية متكلمي العربية في استخدام لغتهم بالطريقة التي يشاؤون إن دعت الحاجة، ولم تكن سخريتي من استخدام كلمة «الانقرائية» إلا لانتفاخها الكاذب ومجيئها في مقدمة الأستاذ الدكتور الغذامي لاستعراض العضلات اللغوية والشهادة الزائفة لكتاب هالك. وينبغي أن نلاحظ، أخيرا، أن مؤلفي كتب القراءة للطلاب في المراحل الأولى من التعليم العام عندنا كانوا قد استَخدموا بعضَ المعايير «الانقرائية» لإنتاج نصوص «معَقَّمَة» تأخذ في الحسبان، كما يزعمون، المفرداتِ والتراكيب التي تلائم مستويات هؤلاء الطلاب اللغوية، بدلا من اختيار نصوص مكتوبة بصورة طبيعية. وكانت نتيجة ذلك إنتاجَ كتب تصلح لأي شيء إلا القراءة. وختاما، أرجو أن يطمئن القراء الأعزاء إلى أن المعرفة ب «الانقرائية» عِلْمٌ لا يَنفَع وجهلٌ لا يَضُر، وأن الجهل بها ليس منقصة، ولا «عارا»، بل دليل على سلامة الذائقة اللغوية من الانتفاخ الذي لا تُحسِنه إلا «العرانينُ المحسَّدَة»!