كان هنري ميشو صاحب خيال ثاقب، وظل عمره كله يبحث عن شيء جميل مركزي الجمالية، ووجده أخيرا حيث صرخ: أيتها البساطة الجميلة كيف لم اكتشفك...؟!! البساطة نوع خطير في الكتابة ربما نظل عمراً كاملاً نبحث عنها، وقد يجدها بعضنا مصادفة أوموهبة أو فطرة وتلقائية، والبساطة سمة نجدها دائما في نصوص نجيب محفوظ، وقبله حاولها وتمناها توفيق الحكيم ووضع لها نظريات وبذل فيها جهودا وطرح مفهومه للتعادلية، وهي نوع من الفصحى المحكية، ولقد نجح فيها عبدالكريم الجهيمان حينما صاغ النصوص الشعبية في لغة ليست بالعامية المحكية ولا بالفصحي المتعالية، وجاءت نصوصه منسابة كالماء صفاء وشفافية (وعمقا)، والنص النموذج تاريخياً وأدبيا في ذلك كله هو نص ألف ليلة وليلة. وإذا قلنا هذا فإن رواية (بنات الرياض) تندرج في هذا السياق ذاته، حيث جاء السرد فيها على مستوى من اللغة الجامعة ما بين لغة الكتابة الفصحى وخصائص النص الحكائي، وصارت نموذجا من الفصحى المحكية. ولقد يقول قائل إن هذا ليس ابتكارا من رجاء الصانع، ولكنه من دوافع الاضطرار لا الاختيار، وهذا الحكم يعود عادة إلى عقلية المتحدث فيما لو كان يميل إلى جعل المزايا عيوبا، أو يميل إلى استكثار النجاح، ويصعب عليه تبرير النجاح بعوامل الإيجاب، ويميل إلى الحتمية العمياء بأن تكون النجاحات وليدة المصادفات، لا المهارات. والذي أراه في هذه الرواية هو النجاح المذهل في كشف خصائص الحكي في اللغة الفصحى وفي دقدرة الفصحى على أن تكون محكية أي ذات حيوية يومية معاشية تداولية. ولكن الرواية لم تكن كلها على حال واحدة، بل إن مستوياتها اللغوية مرت على أربع مراحل، هي: 1- النصوص المقتبسة، وهي بمثابة النص الضيف، حيث استضافت المؤلفة من ذاكرتها الثقافية نصوصاً تنوعت في تنوعت في مستواها اللغوي وفي منطقها، ولكن غلب عليها السياق الديني ببعده الإنساني، بوصفها تمثيلا للشخصية الاجتماعية ذات الثقافة الإسلامية - كما ذكرنا في المقال الثاني من هذه السلسلة - وهذه النصوص المستضافة أعطت الرواية وجها افتتاحيا تأسيسياً فرش أرضية النص وخلق حالة من التوقع والاستنهاض في نفوس القراء، وجعل الذاكرة الثقافية تحضر بوصفها سياقا ذهنيا للنص وبوصفها شفاعة للمؤلفة مع قرائها، وصارت حالة من التجاور القوي لهذا النص الضيف، مع ما سيأتي من سرد. 2- النصوص العامية بلهجاتها المحلية، وهذه على نقيض ماجاء في نصوص الافتتاح، حيث أغرقت هذه النصوص العامية في محليتها اللهجوية، وبمقدار ما كانت الاقتباسات الثقافية عوامل تأسيس لذاكرة النص فإن النصوص العامية صارت عوامل تشتيت للنص، وهي عوامل فرز طبقي للقراء بين من يعرف هذه اللهجات ومن يجهلها، وبين من يقبل بها كثقافة واقعية وبين من يرفضها كثقافة سلبية، وهذا أحدث انشطارا خطيراً داخل النص، وأثقله بثنائية الرفض أو القبول، وهذه لعبة أيديولوجية تزعج النص وتثقله، خاصة حينما أثقلت الرواية نفسها بكتابة اللهجات المحلية حسب توزيعها المناطقي، وصار القارئ - حتى الشعبي منا - يقرأ الجملة مرتين أو ثلاثا لكي يكشف المراد اللغوي ويعيد اللهجة إلى مكانها الجغرافي والثقافي، وهذا تعنت خطير، أوله أن العامية لغة محكية وليست مكتوبة، وتحويلها إلى نص مكتوب، ويخلق اضطرابا بين أبجديتين، هما أبجدية الفصحى المستقرة والمعروفة، وأبجدية العامية غير المستقرة والمعرفة بها محدودة ومناطقية، وليست نظاماً ثقافياً شاملاً ومصطلحا عليه، وهذه حالة انشطار خطير، والذين يتصدون لهذه الأمور عادة هم الباحثون اللغويون وعلماء الأصوات واللهجات في بحوث متخصصة تدقق في حركة الصوت ومخارجه، أما كتابة ذلك في رواية فإنه يدخل النص السردي في متاهات كتابية تعيق النص ولاتخدمه، ولقد تنبه عبدالكريم الجهيمان لهذا الأمر فراح يعيد كتابة الحكايات بلغة وسيطة نجح فيه وأوصل نصوصه دون أن يقع في مآزق الأبجدية الصوتية المعقدة. 3- النص الإنجليزي في الرواية، وقد أسهبت الرواية في كتابة عدد من الجمل الإنجليزية في أبجدية عربية، ووقعت في مأزق مماثل لما وقعت فيه مع العامية، وجاءت مشكلة الأبجدية الصوتية مرة أخرى حيث جرى تثبيت المفردات الإنجليزية حسب نطق المؤلفة لها، وهو نطق يحمل لكنتها الخاصة وكيفية نطقها هي لتلك المفردات، وفي مقابل ذلك سيجد القارئ صعوبة كبيرة في إعادة تهجي تلك الكلمات والجمل مرة ومرات كي يخمن المقصود، ويكتشف بعد ترديد ليس بالقصير بأنها تقصد الجملة الفلانية، وهذا كله من نتائج التحول فيما بين نظام صوتي ونظام آخر، وقد حدث هذا للجمل العامية مثلما حدث مع الجمل الإنجليزية. وهاتان معا - العامية وطريقة كتابتها الأبجدية، والإنجليزية وكتابتها بأبجدية عربية - هما من تغرات النص، وكان من الممكن أن يقتلا النص، ويخرجاه من ميزته اللغوية ويكون إخفاقاً نصوصياً محزناً. ولكن.. ولكن ما أنقذ النص وجعل منه نصا سرديا ناجحا ومذهلا في نجاحه (اللغوي على وجه التحديد هنا، وسأتكلم عن السرد والشخوص في المقال القادم)، الذي أنجح النص هو النموذج الرابع للغة في الرواية عبر صياغته السردية على مستوى لغوي، نسميه هنا بالفصحى المحكية. ولقد كنت طرحت قبل سنوات مقولة كنت أتمنى تمثلها في الكتابة، وهي مقولة: تعميم الفصحى وتفصيح العامية. أي جعل الفصحى ذات عموم تداولي، ورفع العامية إلى مستوى ثقافي يكسر الحاجز اللغوي. وهذه مقولة دفعت إليها ضرورات التواصل الحديث، وهو تواصل بدأ من الصحافة، حيث فرض ظهور الصحافة عربياً قيام لغة تواصلية تداولية قادرة على كسر حواجز التوصيل السريع فيما بين طبقات القراء وفئاتهم، ولقد لمس ذلك أحمد شوقي حينما قال بيته العميق الدلالة: لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف ونحن بمقدورنا تعميم هذا المعنى ليشمل الخطاب الإعلامي كله، وهو بما إنه علامة (آية) لهذا الزمن فإنه يفرض شروطه على لغتنا، وأهمها شرط التوصيل بصفتيه الأساسيتين، وهما: 1- التوصيل السريع 2- الإفهام الدقيق، غير الملتبس. وهذا ماجعل توفيق الحكيم يطرح المشكلة على المستوى النظري والعملي، وصار همه أن يكتب مسرحيات تقرأ إذا قرأت حسب شروط النص الفصيح، ولكنها عند التمثيل تكون قابلة للتداول المحكي فيقوم الممثلون بإلقاء النص كما يلقي في الواقع المعاش بين الناس، وكتب الحكيم نصوصاً مسرحية يتمثل فيها هذا الشرط، على عكس مسرحيات شوقي وعزيز إباظة التي كانت متقعرة تقعرا جعلها أشبه ماتكون بالقصائد منها بالمسرحيات. وتطور الأمر مع انتشار وسائل الإعلام وتنوعها حتى باتت الكتابة الصحفية نفسها نوعاً خاصاً من الخطاب الأسلوبي الجديد بخصائص أسلوبية تختلف جوهريا عن لغة العلم ولغة القصائد ولغة الثقافة الرسمية، وصرنا أمام فصاحة من نوع جديد، وبشروط جديدة. يتقنها البعض ويعجز عن تصور ضرورتها بعض آخر. وإذا جئنا للكتابة الروائية فهي كتابة تلامس اليوم أهم خصائص المجتمع بوصف المجتمع قيمة تداولية، والرواية تعكس الجانب التداولي للحياة المعاشية، وهي تمثل الوقائع فحسب، بل هي تمثل لغة هذه الوقائع وهي وقائع ذات سلوك أسلوبي. هذا واحد من أسباب نجاح الرواية، حينما تأخذ بأسلوب الفصحى المحكية، ولقد ساعد هذا رواية بنات الرياض على تجاوز الثغرات اللغوية التي شوهت السرد فيه حينما حصل تداخل خطير فيما بين الأنظمة الصوتية لمستويات لغوية غير متجانسة، وصارت الكتابة لا تمثل القيم الصوتية للمكتوب. على أن المستويين الثاني والثالث، أي العامي والإنجليزي قد أربكا النص خاصة في تعطيل شرطي التوصيل السريع والإفهام الدقيق غير الملتبس، ولولا لجوء النص للغة الفصحى المحكية لصار خليطا عشوائيا لنوع من الفوضى التعبيرية، ولو تقعر في اللغة وأخذ بشرط اللغة الشعرية المتأنقة لخرج عن سياقه الثقافي وصار قطعة أدبية متحفية وليست تداولية، وهو مايقع فيه كثير من نصوص تسمي نفسها روايات، وسنزيد الأمر قولا، مع الوقوف على هفوات السرد في مقابل نجاحاته، في المقال القادم - إن شاء الله-.