هناك قضايا كثيرة استجدت في الحياة في هذا العصر لا يصلح التعامل معها عند الحكم عليها بتطبيق المنهج القديم الذي وضعه قدماء الفقهاء وطبقوه في أحكامهم على قضايا تشابهها. كما أنها في الوقت نفسه قضايا لا يصح التعامل معها والبت فيها وفق قيم الحضارة الغربية ومبادئها بعيدا عن الرؤية الإسلامية الصحيحة. هذا الموقف يعني أننا نعيش أزمة في مناهج الأحكام الفقهية عند معالجتنا لبعض القضايا المستجدة في هذا العصر، وهي مشكلة عسيرة بالغة الأهمية وليست بالبساطة التي قد يراها بها البعض أحيانا. هناك قضايا بزغت في هذا العصر، يعد التعامل معها في غاية التعقيد كقضية البنوك الربوية والمصارف الإسلامية والأسواق المالية وشركات التأمين وغيرها مما يتعلق بالتعاملات المالية، أو بعض القضايا التي تتعلق بالأحوال الشخصية كولاية المرأة على نفسها وحضانة الأطفال وتزويج القاصرات والعنف الأسري، أو قضايا تتعلق بالتمييز ضد البعض كما هو في دية المرأة أو القول بعدم الاعتراف بنسب ابن الزنا إلى أبيه حتى وإن أقر الفاعل بنسبته إليه، أو غيرها من القضايا الاجتهادية التي ليس في الشرع دليل قاطع على الحكم فيها، ولم تجد إلى الان من يدرسها بمنظور شرعي متحرر من الاتباع لأحد، همه معرفة الحق ولا شيء غيره. إن معظم ما يعمل به من الأحكام لا يخرج في أصله عن أحد أمرين: إما اتباع لأنظمة فقهية وضعها السلف بعيدة تمام البعد عن تطورات ظروف الحياة المعاصرة وما جد فيها من اختلافات عن الماضي، وإما مجاراة لأنظمة علمانية بحتة لا تضع نصب عينها أية اعتبارات دينية. هذا ينقلنا إلى ضرورة فتح باب الاجتهاد والتحرر من الاعتقاد بأن ما قاله السلف وما نصوا عليه في هذا الباب أو ذاك، كافٍ لمواجهة كل مشكلة تبزغ في هذا العصر. بيد أن الاجتهاد يحتاج إلى أئمة مفكرين وليسوا مجرد (حفاظ) تابعين يرددون ما قاله فلان أو فلان، فمن أولى قواعد الاجتهاد القدرة على التأمل بحرية في النصوص الدينية والمعطيات الشرعية الأصلية ووضع منهج بحث يستنبط الحقائق بمنظور جديد مستقل، بعيدا عن التقليد والسير على خطى من سلف، فما قال به السلف هو مما يسترشد به ولكن ليس هو القول الفصل في كل شأن، فالسابقون وإن بلغوا شأنا عظيما في العلم، تظل معرفتهم محصورة في نطاق ما كان متاحا لهم من معلومات في عصرهم، وربما لو أنهم عاشوا في زمننا هذا لقالوا قولا غير الذي قالوا به في زمنهم السابق.