تعتمد إجابة هذا السؤال على تعريف الثقافة والمثقف، وطالما أن الاختلاف فيه واسع وكبير، فسيكون الطريق المؤدي إليه أكثر اتساعا، إذن نحن أمام آراء متعددة ووجهات نظر مختلفة، ولا يمكن لمثلي أن يحسم الموضوع في مقالة ولا حتى في كتاب.. لنتفق إذاً على أني سأحاول إبداء وجهة نظر قد تساعدنا في التفكير. التصور العام للمثقف هو أنه يعرف أشياء كثيرة، لديه معلومات عن مواضيع مختلفة، هكذا يصف كثير من الناس المثقف. إنه الذي يجلس في المجالس العائلية وبين الأصدقاء وزملاء العمل ليحدثهم عن معلومات جديدة حول موضوع قد تطرقوا إليه، إذا كان هذا هو معيار الثقافة، فهو يعني أن من يحصل على المعلومة ويحفظها سيكون مثقفا، وبالتالي سيكون موقع جوجل هو الأكثر والأغزر ثقافة. في رأيي لا توجد وصفة جاهزة للتثقيف. إنه شغف يومي، وقلق إيجابي لذيذ، وأسئلة تولد أخرى، وأفكار تتداعى، وأزمات معرفية، وقضايا كلية وإسقاطات على الواقع، ولكل فكرة عمر افتراضي تظهر بعد ذلك ثغراتها، وتنكشف تناقضاتها وعجزها عن معالجة الواقع، ونقد مستمر، ومراجعات وتساؤلات، لذلك لست مؤمنا بالأكاديميات ولا بالجداول ولا بالنصائح التي تملى علينا وصفات جاهزة في الثقافة.هذا هو التصور الذي رسخ في لا وعينا زمنا طويلا، أن المعلومة هي سر المعرفة والفهم، وهي كذلك، لكنها ليست كل المعادلة. إن الحصول على المعلومة شيء، والتعامل معها شيء آخر، ليس الأحمق هو من لا يملك المعلومة، لكن الأحمق هو من يتعامل معها بغباء. نحن بحاجة إلى تطوير قدراتنا في القراءة، ليس من أجل قراءة أكثر، كتلك البرامج التي تعلمنا القراءة السريعة، بل من أجل قراءة أكثر نضجا ورشدا، الكتب كالأشخاص، نلتقي بهم في لحظة من حياتنا، بقصد أو ربما دون قصد، ولابد - حتى يكون اللقاء مفيدا - أن ندير حوارا جيدا، للقارئ أفق ووعي، وللكتاب أفق ووعي كذلك، والقراءة هي التقاء أفق القارئ بأفق النص، لإقامة حوار حقيقي وثري، وربما في لقاء آخر مع الكتاب نفسه يكون الحوار مختلفا، وما لا نستسيغه اليوم قد يكون محببا لنا بعد سنوات من الآن. لنحاول التغيير في السؤال، فقد يتبين لنا ما يساعدنا في التفكير، لنتساءل مثلا : من الرياضي؟ هل هو الذي يتقن مهارات اللعبة؟ أم هو المحلل الرياضي الذي يعقب على المباراة بعد انتهائها ؟ لا يستطيع اللاعب أن يحلل المباراة فنيا وهو في داخل اللعبة. كما أن المحلل لا يستطيع أن يمارس تحليله وهو يجري في الملعب. لنتساءل أيضا عن القانوني: هل هو الذي يدرس تاريخ القوانين ويلاحظ تطورها ويتتبع تاريخ العقوبات مثلا ؟ أم هو المحامي المتدرب المشغول بإنهاك نفسه من أجل الدخول في نسق المحاماة وصناعة عقليته القانونية؟ أم هو القاضي المشغول بإسقاط الحكم القانوني الكلي على واقعة محددة لها ظروفها الخاصة بها؟ لنعيد السؤال الآن عن المثقف: هل هو ذاك الذي يعيش الواقع، ويعيش اختلاط الخير والشر بشكل يومي، ويتخذ موقفا أخلاقيا من ذلك؟ أم المشغول بتحويل تلك القصص اليومية إلى حالة كلية تجريدية ليضع قاعدة أخلاقية ويعممها على الناس؟! نعيش يوميا قصصا فردية، في كل قصة يختلط الخير والشر، ونحن نتخذ مواقف يومية من كل ما يواجهنا، والعمل الثقافي يحول هذه القصص الفردية إلى حالة كلية، فبدلا من الحديث عن قصة واحدة تجده يتحدث عن قضية عامة، فثمة ثقافة عملية نمارسها يوميا، وثمة ثقافة نظرية نتداولها ونقرؤها ونبدي رأينا فيها. سؤال الثقافة المهم هو عن العلاقة بين هذه التفاصيل والقصص اليومية وبين الكليات، حتى نمسك بالقضية ونتحاور حولها نحتاج إلى تحويلها إلى قضية عامة متعالية على التفاصيل، فحين نريد التحدث عن التسول مثلا، سنواجه قصصا يومية، ومن هذه القصص سنتحدث عن ظاهرة، سنعرف التسول ونتحدث عن أسبابه وانتشاره وسنأتي بالأرقام والإحصائيات... الخ، وهنا تضيع القصص الفردية، ويصبح هم الثقافة النظرية التنظير لقضية عامة. هل على المثقف أن يكون ضمن الناس وأن يعيش قصصهم وأن يكتسب المعرفة من خلالهم ؟ أم على المثقف أن يكون دودة كتب، يعيش بين الكلمات، ويقضي ساعته بين القراءة والكتابة؟ قصصنا اليومية وتفاصيل حياتنا، وكذلك الكلمة التي نحكيها بعد تلك القصص والتفاصيل هي دائرة الثقافة، ونحن نقوم بعملية تأويل للحدث، ثم نقوم بعملية تأويل أخرى للكلمة، وبهذا تزداد خبرتنا وتنضج تصوراتنا. في رأيي لا توجد وصفة جاهزة للتثقيف. إنه شغف يومي، وقلق إيجابي لذيذ، وأسئلة تولد أخرى، وأفكار تتداعى، وأزمات معرفية، وقضايا كلية وإسقاطات على الواقع، ولكل فكرة عمر افتراضي تظهر بعد ذلك ثغراتها، وتنكشف تناقضاتها وعجزها عن معالجة الواقع، ونقد مستمر، ومراجعات وتساؤلات، لذلك لست مؤمنا بالأكاديميات ولا بالجداول ولا بالنصائح التي تملى علينا وصفات جاهزة في الثقافة، بقدر إيماني بحب المعرفة والشغف الدائم المستمر، وأن تعتقد أن حب المعرفة والتفكير هي أجمل ما حدث لك.