الحديث عن التيار "المدني" في مصر عملية "شاقة"؛ لأننا -والحال كذلك- نكون قد دلفنا إلى منطقة "شبحية" أو على الأقل "منتحلة" لا وجود لها في الواقع الموضوعي. القوى المدنية -التي مازالت موجودة في المنطقة "الإعلامية" من المشهد السياسي المصري- قادت التيار المدني -على افتراض وجوده- إلى سلسلة من الانهيارات والهزائم السياسية، ويكفي أنها مُنيت بهزيمة كبيرة أمام مرشح الفلول أحمد شفيق، قبل أن يعود من بوابة التصدي للإخوان، ليقود التيار المدني المحسوب على قوى الثورة، في واحدة من أبرز عمليات تدوير مخلفات مبارك، على حد تعبير الزميل "وائل قنديل" في الزميلة "الشروق". لقد سَحق "شفيق" مرشحي التيار المدني في انتخابات الرئاسة، وتخطَّى بفروق واسعة كلاًّ من: عمرو موسى، وحمدين صباحي، وخالد علي، وأبو العز الحريري، وغيرهم؛ قبل أن يوقفه مرشح الثورة والتيار الإسلامي د.محمد مرسي. المدهش أن مَن فشلوا أمام الجنرال الهارب أحمد شفيق، لم يعتذروا للثورة وللثوار وللشعب المصري، وينسحبوا ب"نُبْل" من المشهد بعد هزيمتهم المخزية، وليفسحوا الطريق أمام "جيل مدني" جديد، غير ملوث بجينات فساد عصر مبارك؛ بل تصرفوا -ب"كاريكاتورية" مضحكة- وكأنهم فازوا في الانتخابات، وتبجحوا في طلبهم بمشاطرة الرئيس المنتخب في حكم مصر، من خلال ما أسموه ب"المجلس الرئاسي"! هذا الجيل "العجوز" والمهزوم سياسيًّا من مرشح مبارك، لم يبرح مكانه، وذلك بعد تمسكه بالاستيلاء على المشهد المدني المصري، وانتحال صفة التحدث باسمه، مصادرًا حق الأجيال الجديدة في خوض التجربة، وخاصة الجيل الذي شارك في صنع الثورة، وربما يكون مؤهلاً من حيث الإبداع والخيال والاجتهاد على تقديم رؤًى مبتكرة، تجيد قراءة الواقع الجديد، وفك رموزه ولغته وطلاسمه، والأهم من ذلك أن يعارض حين يعارض "الإسلام السياسي" -كما يصفونه- على أرضية من "الخلاف السياسي"، وليس بوازع من "الثأر التاريخي" و"تصفية الأحقاد الأيديولوجية" و"العقد السياسية"، والتي بلغت حد استدعاء الجيش للاستيلاء على السلطة واعتقال الرئيس المدني المنتخب. مصر في حاجة إلى وجود تيار مدني حقيقي يتسم بالطهر السياسي، والنقاء التنظيمي، وليس مثقلاً بعبء الأيديولوجية وأحقادها، يختلف ويتفق على أرضية سياسية، مهما كان عمق التباين في الرؤى والأفكار والمعتقدات السياسية، وهذه الصفات ليست موجودة في القيادات "المدنية" الراهنة، وفي عواجيز "جبهة الإنقاذ" ولا في يسار "هنري كوريل"، ولا في التيار الليبرالي "الاستئصالي"، ولا فيما تبقى من يسار "ناصري متطرف"، ولا في العلمانية المصرية بنسختها "الانتهازية الفجة". المسألة تحتاج إلى ثورة داخل التيار المدني، وإلى مراجعات فكرية يقودها جيل الشباب المدني الذي لا تزال سترته مخضبة بعبق الدم الطاهر الذي سال في الميادين أمام وحشية مبارك ومؤسساته الأمنية الدموية. فهلاَّ نسمع قريبًا عن تلك المراجعات التي تحتاج إلى قرار جسور وشجاع؛ ليضع حدًّا لهذا العبث والمتاجرة والانتهازية، التي بلغت حد التآمر على الشرعية وعلى الديمقراطية وعلى التداول السلمي للسلطة، والاستئناس في العمل تحت "بيادات" جنرالات الجيش؟!